اخبار العراق
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٦ أب ٢٠٢٥
اشتباك مسلح بين أنصار مديرين في دائرة حكومية واحدة بسبب رفض المدير السابق تسليم المنصب لخلفه
في الدول المستقرة تشكل المناصب الحكومية إحدى أدوات العمل الإداري لخدمة المجتمع وتطوير مؤسسات الدولة، بينما في العراق تحولت تلك المناصب إلى بؤر صراع، وأحياناً ميادين قتال مسلح. فالموقع الوظيفي هنا لا يرى كأمانة أو مسؤولية، بل يعامل كغنيمة سياسية واقتصادية يدافع عنها شاغلها حتى الرمق الأخير، وأحياناً بالسلاح، كما حدث أخيراً في منطقة الدورة جنوب العاصمة بغداد.
ليست هذه الحادثة الأولى من نوعها لكنها من بين الوقائع هي الأكثر صدمة، حين اندلع اشتباك مسلح بين أنصار مديرين في دائرة حكومية واحدة بسبب رفض المدير السابق تسليم المنصب لخلفه المعين، مما أثار قلقاً شعبياً واسعاً، وأعاد إلى الواجهة تساؤلات مزمنة: لماذا أصبح المنصب في العراق أثمن من أرواح الناس؟ وما الذي جعل الدولة عاجزة عن تطبيق إجراءات إدارية بسيطة من دون سفك دماء؟
بدأ الأمر بقرار إداري روتيني هو تعيين مدير جديد لدائرة زراعة بغداد- الرصافة، لكن بدلاً من تنفيذ القرار بسلاسة رفض المدير السابق مغادرة المكتب، واعتبر القرار غير قانوني، وفق روايته. لكن المدير المكلف بدوره لم يجد حلاً آخر سوى الاستعانة بمجموعة مسلحة تابعة له لتنشب مواجهة دامية راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى.
مصادر أمنية أكدت أن 'الطرفين استخدما أسلحة متوسطة وخفيفة داخل المؤسسة، وأن المواجهة استمرت نحو 30 دقيقة، قبل أن تتدخل قوة من الشرطة وتفرض طوقاً على الموقع'، مضيفة أن 'الحادثة كشفت عن تورط جهات حزبية نافذة في الصراع'.
وفي قراءة لما جرى، يؤكد النائب السابق رحيم الدراجي أن 'المنظومة السياسية التي أسست بعد عام 2003، كرست فكرة أن المنصب الإداري هو استثمار سياسي واقتصادي، وليس وسيلة لخدمة المواطن'.
ويقول الدراجي في تصريح صحافي 'في العراق، لا أحد يستقيل أو يسلم المنصب طواعية، إلا إذا خسر دعم الحزب أو الكتلة. وبما أن المناصب توزع على أساس المحاصصة، فإن الحزب يعتبر المنصب ملكاً له، ويختار من يشاء ويبقي من يشاء. هذا النمط جعل من التنقلات الإدارية معارك حقيقية، وسط غياب مفهوم تجديد الدماء أو الكفاءة أو الأداء، مما أدى إلى ترسيخ ثقافة التشبث بالمقاعد، وليس التناوب عليها'.
على رغم كثرة الحوادث المأسوية التي شهدها العراق في الأعوام الماضية، من حرائق في المستشفيات، إلى انهيار مبانٍ، إلى فساد إداري ومالي واسع النطاق، لم تسجل استقالات طوعية من قبل مسؤولين كبار.
يعتقد المتخصص الإداري أيمن الشمري أن المشكلة تتجاوز التصرفات الفردية، وتمثل خللاً عميقاً في بنية الدولة العراقية. ويقول 'في الأنظمة الإدارية الحديثة، تحدد مدة بقاء المسؤول بموجب معايير تقييم الأداء، لكن في العراق، هناك مسؤولون باقون في مواقعهم منذ أكثر من 10 أعوام من دون تغيير'. ويضيف 'عندما يطلب من مسؤول أن يتنحى، فإن السؤال الأول الذي يطرح داخل الحزب هو: من البديل؟ ومن أي جناح؟ وما مقدار النفوذ الذي سيحظى به؟ هنا تصبح الكفاءة هامشاً، ويصبح الولاء جوهر المعادلة'.
السعدي يؤكد أن 'النظام الإداري العراقي يعاني التسييس والشلل في الوقت نفسه، إذ لم تعد مؤسسات الدولة قادرة على ضبط إيقاعها الداخلي بسبب تعدد مراكز القرار'.
ويشير الباحث في شؤون الحوكمة أحمد المفرجي إلى أن 'المشكلة الكبرى هي أن السلطة في العراق مرتبطة عضوياً بالولاء الحزبي، لا بالشرعية القانونية'، موضحاً أن 'أي قرار لا يحظى بتغطية من الفصيل أو الكتلة التي ينتمي إليها المسؤول، يعتبر غير نافذ'.
ويقول المفرجي 'حال الاشتباك في الدورة ليست سوى إحدى صور هذا التشابك بين الدولة الرسمية والدولة العميقة، فالموظف لا يعود موظفاً في جهاز الدولة، بل ممثلاً للحزب أو الفصيل، ومن ثم، يتم الدفاع عنه وكأنه جزء من المنظومة العقائدية، لا النظام الإداري'.
أما زينب كاظم، وهي موظفة في إحدى الوزارات، فتقول 'نعيش حالاً من الفوضى، فالقرارات الإدارية لا تطبق إلا إذا كان المسؤول ضعيفاً، أما أصحاب النفوذ فلا يجرؤ أحد على إعفائهم من مناصبهم حتى لو كانوا عاجزين عن أداء مهامهم'.
ويؤكد موظف حكومي آخر هو عبدالله فيصل أن 'الدولة تنهار حين تصبح القرارات حبراً على ورق، وتفرض بالقوة أو تقاوم بالسلاح'. متسائلاً 'كيف نقنع المواطن بأن هناك قانوناً يحكم البلاد، إذا كانت الجهات الرسمية نفسها لا تحترم القانون؟'.
تظهر حادثة الدورة أن الدولة العراقية لا تزال تدار بعقلية الغنيمة السياسية، إذ لا تفهم الوظيفة العامة بوصفها واجباً، بل كامتياز. وفي غياب القانون والرقابة والمساءلة يصبح الصراع على الكرسي أشبه بالحرب، وما لم تتحرر المؤسسات من قبضة السياسة، ويفصل بين الحزب والدولة، ستبقى المناصب ساحات اقتتال، لا ميادين خدمة عامة.