اخبار العراق
موقع كل يوم -الحرة
نشر بتاريخ: ٤ كانون الأول ٢٠٢٢
أربعون يوماً مضت على منح الثقة لحكومة السوداني، وطوال هذه الفترة من عمر الحكومة كان الترقّب هو سيّد الموقف. نراقب التصريحات وننتظر أن تنعكس على السياسات العامة للدولة وتغيير في نمط التفاعل بين الحكومة والمواطن، ويبدو أننا سنبقى ننتظر، حالنا حال شخصيات مسرحية 'في انتظار غودو' لصمويل بيكيت!
في أولى خطوات حكومة السوداني لمحاربة الفساد ومتابعة ملفّاته، خرج لنا في مؤتمر صحفي من داخل القصر الحكومي محاطاً بأكداس من الأموال العراقية والدولارات الأميركية، باعتبارها جزءاً بسيطاً قد جرى استعادته من (سرقة القرن)، معلناً عن صفقةٍ جرى عقدها مع المتهم الرئيس بهذه السرقة حتّى تُسترجَع الأموال كاملة!
وبعد الانتهاء من هذا الخبر، التقيت صديقاً إعلامياً مقرّباً من السوداني، فبادرته بسؤال: ما الداعي من الاستعراض الإعلامي وهذا التطبيل والترويج لِلخبر باعتباره منجزاً تفتتح به الحكومةُ خطواتها لمحاربة الفساد؟ لاسيما إن ما جرى استرداده لا يتجاوز 5% من (سرقة القرن) التي وصلت إلى مليارين ونصف المليار دولار! ردَّ الصديق الإعلامي، وكان مختصراً جداً: ما فعله السوداني هو خطوة لم يسبقه فيها أيُّ رئيس حكومة سابق!
حقيقاً، لم استغرب من ردّه، بالقدر الذي كنت فيه مستغرباً من الثقة التي تحدّث بها، باعتبار ما قام به منجزاً وكونه لم يسبقه فيها أحد! واكتفيت بالرد: أتمنّى على السيد السوداني أن يتابع بنفسه، ولا يكتفي بما يعرضه له فريقه الإعلامي، وأن يطّلع على التعليقات وردود الفعل على الخبر، وكيف جرى تداوله في صفحات التواصل الاجتماعي.
ربما اتفق مع كثيرين على أنَّ الوقت لا يزال مبكّراً لانتقاد الحكومة أو تقييم خطواتها، ولكنَّ غايتي في هذا المقال ليس التقييم ولا الانتقاد، وإنّما تشخيص الخلل في تعاطي الحكومة مع الأولويات، ومشكلتها في الدوران ضمن حلقة مفرغة من الشعارات، تسويقها لخطواتها بأسلوب تقليدي يعيد تكرار خطوات الحكومات السابقة بطريقة لا تخلوا من السذاجة وليست بريئة من قصور في الرؤية.
مشكلة حكومة السوداني أنها تريد أن تسوّق لِلجمهور أنَّ أولى مهامها التعاطي مع الفوضى الإدارية وملفات الفساد التي خلفتها حكومة مصطفى الكاظمي. ورغم أنّ تلك الملفات خطيرة جداً، لكن اختزال سنوات الخراب والفوضى بمخلّفات حكومة الكاظمي هو نوع من التصغير لِلتراكمات الفوضوية والفساد والهدر بالمال العام التي أنتجتها منظومة الحكم وقواها السلطوية التي لا تزال متنفذة ومهيمنة على قرار حكومة السوداني ومتحكّمة فيها بقوّة. ومن ثمَّ، يجب على السوداني أن يدرك أنَّ مهمة حكومته ليست ترويج صكوك الغفران لِكل الحكومات السابقة والزعامات السياسية، وأن تختزل الفساد والخراب فقط بالكاظمي وفريقه الحكومي.
المشكلة الثانية هي أن خطاب السيّد السوداني قبل تولّيه منصب رئاسة الحكومة وحتّى بداية حكومته كان يركّز على طرح أفق سياسي وإداري غير تقليدي لمعالجة المشكلات الاقتصادية وإدارة المؤسسات التي على تماس مباشر مع تفاصيل الحياة اليومية للمواطن. لكنّه منذ قيادته الحكومة إلى حدّ لحظة كتابة المقال، لم يقدّم لنا فريقاً سياسياً جديداً يتلاءم مع طروحاته التي تنتقد الفاعلين في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية. إذ يبدو أنّ السوداني إلى الآن غير قادر على مغادرة مبدأ الترضيات لِلكتل السياسية التي باتت تفرض مستشاريها ضمن فريقه الحكومي، وهو شخصياً يعتمد مبدأ تقريب الشخصيات التي تربطه بها علاقة شخصية ضمن عمله في المناصب الحكومية السابقة. وبالنتيجة لا يمكن أن نتوقع نتائج جديدة من فريق سياسي تقليدي كان جزءاً من طاقم الحكومات السابقة التي عجزت وفشلت في تقديم أبسط الخدمات للمواطن.
المشكلة الثالثة، هي أن السوداني لا يزال غير قادر على مغادرة تفكير رؤساء الحكومات السابقة الذي يعتمد على استراتيجيات الإرضاء للكتل السياسية، أو مجموعة من القرارات التي تنحصر غايتها في تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل، وبالنتيجة تكون لدينا حكومة تلوذ بسياسات تهدئة مع قوى السلطة التقليدية، والتي مع الأسف تتعمّد في ترويج صورة مصغّرة لمنصب رئيس الوزراء بوصفه موظّفاً لديها وليس المسؤول الأول عن رسم السياسات العامة وتحقيق مصلحة البلاد.
والمشكلة الرابعة هي أن السوداني، طوال الأربعين يوماً المتصرّمة، لم يتمكن من تغيير الصورة النمطية للعلاقة بين الحكومة والجمهور. فهو إلى الآن يتصوّر أن كثرة اللقاءات والحوارات السياسية مع شخصيات سياسية وحتى شخصيات إعلامية ورجال أعمال مقربين من الحكومات السابقة وقوى السلطة، هي الوسيلة التي يمكن من خلالها تقديم تصوره لإدارة الحكومة.
ويبدو أن تلك اللقاءات التي يكون فيها رئيس الحكومة متحدثاً أكثر من كونه مستمعاً تزيد من ضبابية الرؤية بدلاً من قدرته الاستماع إلى ما يريده المواطن من الحكومة.
لقد تصدّى السوداني للمهمة وهو مدرك جيداً لحجم تحديات الفساد والفوضى، لذلك هو بحاجة إلى أن يكون رجل دولة استثنائيا وليس موظفا حكوميا تقليديا.
ورجال الدولة لا تُختبَر قدرتهم على إدارة التحديات في ظروف الرخاء، وإنّما يجري اختبار رؤيتهم وقدراتهم على مواجهة التحديات في ظروف التحديات الخطرة. وجميع الظروف والإمكانيات الآن متهيئة أمام السيد السوداني لو أحسن استثمار الفائض المالي والدعم الدولي والإقليمي، والبدء بخطوات جديّة تحقق منجزاً سياسياً وخدمياً واقتصادياً يتلمّسه المواطن في الشارع وفي مراجعته للدوائر الحكومية وفي المستشفيات، وفي تحسين وسائل معيشته وحمايته من جماعات السلاح المنفلت.
وأخيراً، متلازمة الحكومات وعمى السلطة يجب أن يعمل السوداني على تجاوزها من خلال التفكير بالخطوات القادمة التي تعيد الثقةَ لِلمواطن الذي ينتظر الكثير من هذه الحكومة، والرهان يجب أن يكون على كسب تلك الثقة التي ستكون الحصن المنيع لِلحكومة إذا أحسن التعامل مع أولوياتها.