اخبار الجزائر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٦ حزيران ٢٠٢٥
مشكلة اجتماعية تتحول يوماً بعد آخر إلى ظاهرة حضارية مقلقة تتطلب منا مساءلتها وتحليلها
الماء عبادة، نعمة، لكن هذا الحضور المتنامي بفوضى عارمة لبائعي الماء في مدينة الجزائر العاصمة مقلق ومؤرق!
يظل الماء حمال جزء كبير ومهم من تاريخ الإنسانية، إنه وكما يسقي حقول السلام يسقي ميادين الحروب الشرسة.
بائعو الماء، القراب والسقاء، هم حملة الأساطير والحكايات والأشعار الشعبية.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، هجم بائعو الماء على شوارع مدينة الجزائر البيضاء! إنها غزوة القراب الجديد، وها هي ظاهرة جديدة وغريبة وغير عادية تستوطن المدينة، وأكثر فأكثر، ككرة الثلج تكبر، لتتحول إلى قضية اجتماعية لا يمكن تغطيتها أو التستر عليها.
بكل الأعمار، أطفال وشباب وشيوخ، رجال ونساء، منذ الساعة الأولى لشمس هذا الصيف الحار والطويل، يختارون بصورة جيدة ومدروسة مواقعهم، في الشوارع التي تكثر فيها زحمة حركة سير السيارات، خصوصاً عند نقاط الزحمة السوداء، ليعرضوا على سائقي وسائقات المركبات قناني الماء البارد!
قبل عام، كانوا عبارة عن كمشة من الشباب، بعض العشرات، يتحركون بحشمة وتردد، أما اليوم فأصبحوا بالمئات، بل بالآلاف! قبل عام، كانوا يتوقفون في بعض أركان العاصمة، اليوم، إنهم في كل مكان، في الشوارع وعند أبواب الجامعات وعلى أبواب المستشفيات وفي الساحات العمومية، وعلى مداخل المدينة ومخارجها وحتى على الطريق السريع السيار! نعم على أطراف الطريق السيار!
إنها ظاهرة اجتماعية وحضارية مقلقة، والتي تُسائلنا نحن المثقفين، وتتطلب منا عناية خاصة ودراسة وتحليلاً بكل جرأة وصدق.
الثقافة ليست تخمة من مفاهيم وخطابات نخبوية تدور حول نفسها وتأكل ذيلها بتلذذ! الثقافة أن تراقب المجتمع والمدينة في لحظة انعطافاتها الحساسة، وأن تقرأ المدينة من الداخل، ما يأكل قلبها وأحشاءها ولغتها.
إلى زمن غير بعيد كان للمدينة قرابها، ساقيها! شخصية طريفة، محترمة ومحبوبة من قبل الجميع في المدينة. مبتسماً دائماً، في لباس تقليدي مميز، يحمل على ظهره قربته المصنوعة من جلد الماعز أو الشاة، مائلة قليلاً على جنبه، مملوءة بالماء المنعش البارد، بكل فخر وسعادة وتألق، يتعامل مع قربته التي تنبعث منها رائحة المسك أو العسل البري، كساحر، بحركات أصابعه المثيرة يلعب بكأسين من نحاس أصفر، بهما يسقي زبائنه، يغسلهما بين الحين والآخر بماء ينزل من دلو يحمله على جنبه.
لا أحد يعرف سر القراب، هل هو يبيع الماء أو يقدمه هدية إلى العطشى من المارة! بكثير من الحياء أو التستر، يقدم بعض الذين واللاتي يشربون من مائه بعض قطع نقدية، يأخذها وبحركة خفية يدخلها في جيبه الكبير.
الماء بركة لا سلعة للبيع!
لم نكُن نفهم وجود القراب عند مدخل السوق المغطى بأنه هاهنا لبيع الماء للمارة العطشى، بل كنا نرى في حضوره هذا، قبل كل شيء، فرجة فنية كبيرة، ومتعة تزيد المكان جمالاً، وبكثير من السحر كان القراب يتقمص تارة شخصية الممثل المسرحي، وتارة أخرى صورة الحكواتي، وثالثة شخصية المغني أو الشاعر، وفي كل هذه التحولات كانت الفرجة حاضرة والمارة يتكاثرون من حوله، والقطع النقدية شيئاً فشيئاً تملأ جيوبه بتكتم.
كان القراب أول من لعب مسرح الشارع في المدينة حتى قبل أن يعرف الجامعيون والمتخصصون في المسرح هذا النوع من الفرجة، بصنجاته النحاسية وبجلال ورقة عالية يعزف بعض نوتات موسيقى فولكلورية، في لباسه التقليدي البهي النظيف المليء بالألوان المثيرة، يؤدي بين الحين والآخر رقصات ذكورية مدهشة، كرقصة العلاوي أو الشاوية أو الصوفية، فتزداد الحلقة البشرية من حوله اتساعاً، وبصوته الحنون يؤدي أغنية على وقع ضربات الصنجات، فيتجاوب معه الحاضرون بعمق.
الماء والفن، هذاك هو القراب، قراب زمن مدينتنا الجميلة!
اليوم هؤلاء، نساء ورجالاً، شباباً وأطفالاً وشيوخاً الذين هجموا على المدينة من كل الجهات، لا علاقة لهم بالفن ولا بالثقافة ولا بجنون الفرجة التي كثيراً ما قدمها القراب الحقيقي، أو هكذا يبدون. بوجوه يابسة، من دون ملامح، بعصبية وعدوانية تارة، ينظرون بحيرة أو بقسوة إلى سائقي وسائقات المركبات وهم من خلف مقاودهم، يحدقون فيهم وكأنما يتمتمون سباباً وشتماً بصمت.
كل شيء تغير!
كان كرم القراب، مدججاً بذكاء شعبي وعبقرية فنية عفوية، قادراً على تحويل العرض التجاري، بيع الماء، إلى عرض شعري، في شكل فن 'الحلقة' التي ستمثل لاحقاً أول أشكال ولادة المسرح المعاصر في بلدان الجنوب، من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بائعو الماء اليوم الذين غزوا مدينة الجزائر العاصمة، لا حساً فنياً أو مسرحياً يملكون، لا شيء فيهم يحيل على العبقرية الجمالية الشعبية، يلبسون على عجل، كيفما اتفق، أقدام عارية في نعال من البلاستيك، تحت شمس حارقة رصاصية، متذمرين، يجرون خلف السيارات، يتزاحمون ما بين صفوف المركبات وهي تتحرك ببطء أمام إشارة المرور أو عند الدوار حيث تتباطأ الحركة أكثر.
إذا كان حضور قراب البارحة يطبع يوم المدينة بخاصة في ساعات القيظ بمسحة من فن يخفف ثقل الحر وصعوبة اليومي وعناء السوق، فإن بائعي الماء اليوم يفرضون حالاً من التوتر تصل مرات كثيرة إلى حد 'الهرسلة'، التحرش ضد السائقين، بخاصة النساء منهم والمارة أيضاً.
إذا كان قراب الأمس بلغته ولباسه وحركاته وموسيقاه ورقصاته ولسانه الحلو يذكرنا بالمسرحية الشهيرة 'القراب والصالحين' للمخرج المسرحي الجزائري الكبير ولد عبدالرحمن كاكي (1934-1995)، فإن بائعي الماء اليوم في شوارع مدينة الجزائر العاصمة يذكروننا بفيلم 'الطيور' لهيتشكوك.
من دون شك، فبائعو الماء في شوارع العاصمة وجدوا أنفسهم مجبرين على القيام بهذا العمل العويص من أجل لقمة العيش في زمن لا يرحم وحرّ لا يحتمل، وكلما شاهدت هذا المنظر، أجدني متضامناً مع وضعيتهم الاجتماعية الصعبة، متعاطفاً مع حالهم المأسوية، أجدني حزيناً وغاضباً، لكن وفي الوقت نفسه، ومن ناحية أخرى، علينا أن ندرك أن للمدينة حقوقها وشروطها الحضارية والتجارية.
نعم، يمثل بائعو الماء في مدينة الجزائر اليوم مشكلة اجتماعية، وهي يوماً بعد آخر تتحول إلى ظاهرة حضارية مقلقة تتطلب منا مساءلتها وتحليلها وتفسيرها بهدوء وشجاعة.