20 يوليو، 2025

بغداد/المسلة: تتلقى القرى العراقية ضرباتها الكبرى بصمت، تحت وطأة أزمة مزدوجة تمزج الجفاف بالنزوح، لتغدو الأرياف الجنوبية من العراق مختبرًا مفتوحًا لتبعات التغير المناخي، وتحولًا ديمغرافيًا يعصف بالموروث الريفي. وبينما يلفح العطش نهر الفرات، تتقوض الأعمدة الثلاثة للاستقرار في الجنوب: الزراعة، الثروة الحيوانية، والنظام البيئي.

وتتراكم المشاهد المؤلمة في محافظات مثل ميسان وذي قار والمثنى، حيث لا تقتصر الخسائر على هجرة 1600 فرد في ميسان وحدها، بل تمتد لتشمل اضمحلال حيوات بأكملها، وانهيار روابط اجتماعية بُنيت على مدى أجيال. ومن منطلق التوصيف السياسي، يمكن الحديث عن 'تفكك الهامش الحيوي'، وهو مصطلح يصف انكماش الأطراف أمام تمدد المركز، وهو ما يعيد صياغة الخارطة الديمغرافية والسياسية معاً.

وتنعكس هذه التحولات على عمق النسيج الوطني، إذ تضع النزوح الريفي ـ الذي بدأ بوصفه سلوكًا اضطراريًا ـ الدولة أمام تحديات متراكبة في الأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي، وتمركز الفقر في المدن. فالتصحر لم يعد مجرد ظاهرة طبيعية، بل بات استراتيجية مفعّلة تنزع الريف من سياقه الجغرافي، وتعيد إنتاج الهشاشة في مراكز حضرية مكتظة.

ويبدو أن نزوح الريف إلى المدينة ليس فقط انتقالًا في الجغرافيا، بل انزياح في الهوية والذاكرة والوظيفة. فالفلاح حين يفقد مصدر عيشه، لا يهاجر فقط إلى الحاضرة، بل يُجبر على العيش خارج كل منظومة اعتادها، لتتسع دوائر العشوائيات، ويتصاعد الاحتكاك الاجتماعي بين من تم اقتلاعهم وبين من عاشوا في المدينة أصلًا.

وتحاول وزارة التخطيط ترميم النزيف بخطط تمويلية ومشاريع بنى تحتية عبر الصندوق الاجتماعي وصندوق المناطق الفقيرة، لكن ما يُطرح من مشاريع صحية وتعليمية لا يبدو قادرًا على مجاراة موجات الجفاف، ولا على كبح تسونامي التصحر الزاحف الذي يبتلع ما تبقى من الريف.

وفي ضوء هذه المتغيرات، تلوح الحاجة إلى مقاربة استراتيجية تعيد للريف اعتباره كبنية سياسية واقتصادية وثقافية، وتُوقف انزلاقه من خريطة التوازن الوطني. فالجفاف هنا ليس ظاهرة مناخية عابرة، بل إنذار وجودي يهدد العراق في إحدى أعمدته الحضارية.

About Post Author

Admin

See author's posts