ليال الاختيار تكتب.. أغادر مخيم الضحايا وأغادر السودان ولا شيء من الأثنين يغادرني

متابعات – نبض السودان

في السودان، لا حرب تُخاض بين بشر. في السودان هناك بشرية كاملة تُباد. وهذه ليست كلمات. هذه شهادة واجب إنساني لا غير.

' قال لي: يا عبدة امشي. وسحبني مع إخوتي البنات وبنات أعمامي إلى الخارج تحت الأشجار'.

عبارة واحدة كانت كافية لتسترجع عيشها تلك المأساة. أصلاً لم تفارقها لحظة، لكن محاولة روايتها للمرة الأولى، أعادت الرعب إلى عينيها واليدين. بصوت منكسر حاولت استكمال الوقائع وهي تحدق في التراب تحت قدميها المثخنتين. وكأن فيه بقايا محبوسة مثلها، منذ لحظات الجريمة. ثم تابعت تقول:

'لم نكن نعرف إذا ما كنا سنخرج أحياءً. اغتصبونا جنباً إلى جنب في العراء. صرنا نصرخ ونصرخ، لكن لم يسمعنا أحد إلا الله. كنت أنظر إلى أختي الصغيرة، لم تكمل أعوامها الـ13.

انحفر وجهها المذعور في عيني وهي ترتجف وتئن قربي. اغتصبوها أمامي أيضاً، وهي فقدت القدرة على الكلام حتى يومنا هذا. ضحكاتهم الهمجية في ذاك اليوم ما زلت أسمعها.

أتمنى لو رأيت وجهه، لكنه جبان. حتى في الاغتصاب كان ملثماً، يضحك تحت لثامه اللعين، ثم بتنهيدة موجعة تختم: 'أشكوهم إلى الله الذي لم يبقَ لنا سواه. هنا في المخيم يصنفوننا ناجيات، ولكن نحن لم ننجُ. نحن فقط نتعلم كل يوم أن نحاول كيف نكمل حياة انكسرت في لحظة لم نخترها'.

هكذا صعقتني إحدى ضحايا جحيم الفاشر من اللاجئات إلى مخيم الدبة في الولاية الشمالية. هي شهادة من مئات قُيّض لي أن أسجل مآسيهن، في المخيم الممتدة خيامه مثل بحر من الألم.

قبل وصولي إلى السودان كنت أتحضر وكأنني أمام مهمة صحافية أخرى. في ظروف مجرد حرب أخرى، لكن في السودان اكتشفت كيف يمكن لمجموعة من المسلحين أن تذبح إنسانية كاملة.

دخلت مخيمات النزوح باستعداد مَن يبحث عن خبر وحقيقة، فاكتشفت هناك أن الطبيعة البشرية 'في خبر كان' عند البعض، وأن العالم آخر همه الحقيقة.

مشيت في صحراء من أقمشة منصوبة مأوى، لا ترد حراً ولا برداً. رأيت عيوناً أنهكها البكاء حتى غارت في وجوه ملبوسة خوفاً. ما شاهدته لم يغادر ذاكرتي. ولن يغادرها.

بعض الصمت في معظم الشهادات كان أكثر دوياً من أصوات القصف. وغالب العيون المحطمة كانت أضخم من كل حيثيات التقارير الدولية.

بقايا وجوه أطفال بأجساد نحيلة وحدقات مرهقة مفتوحة على رجاء ولو قطعة حلوى. يتجمهرون حول كل زائر. يأملون منه أي أعطية، تعيد إليهم إحساس الحياة، لطفولة داستها الأقدام الغليظة.

أول ما يلفت المتقصي أن تلك المخيمات مكتظة بالنساء والأطفال. مع بعض المسنين من الذكور فقط. لا رجال بالغين هنا إطلاقاً. أما السبب فلأن مسلحي 'الدعم السريع' منعوهم من مغادرة الفاشر. كانت خياراتهم بين القتل أو الاعتقال لإجبارهم على القتال في صفوفهم. هكذا تروي اللاجئات هنا. قبل أن يشرحن أن المقصود من ذلك كان التطهير العرقي لإبادة شعب كامل.

ما لا تدركه نساء الفاشر ترويه التحقيقات الدولية عبّر بعض شهودها عن المأساة: هؤلاء الذين لم يواجهوا حرباً عسكرية أو معارك قتال. لقد كانوا هدفاً منهجياً لما يعرف بعملية 'عنف قائم على الجندر' (Gender-based violence) معظمهن تحولن إلى أمهات بديلات، بعدما وجدن أطفالاً متروكين وحدهم في العراء، لا يعرفون أسماءهم ولا ذويهم.

فقدوا كل شيء في طريق هروبهم من الموت. حتى الفتيات الصغيرات تحولن 'أمهات' للناجين من إخوتهن. بعدما صاروا جميعاً أيتاماً وضحايا في آنٍ.

في هذا المخيم وحده، هناك نحو 12 ألف ضحية. وفي مجمل الولاية أكثر من مئة ألف. إضافة إلى مئات الآلاف في ولايات أخرى. تجمعهم معاناتهم من فقدان كل شيء كان، وحاجتهم إلى كل شيء الآن. السكن والغذاء والعناية الصحية. والأهم بارقة ضوء نحو مستقبل، أو مجرد حياة. تتكثف الجهود الدولية والحكومية لمحاولة إعالتهم. لكن استمرار النزاع من حولهم، يجعل فتح الممرات الضرورية لوصول المساعدات، مسألة معقدة، بقدر ما هي أكثر من ضرورية.

صورة حياة الضحايا في كل خيمة من هذا البحر، تروي كل المأساة: لا فراش على أرضها. أجساد العشرات داخلها مكدسة على الرمال الحارقة. والبعوض بالمئات ينهش أجسادهم النحيلة، لا مياه كافية، لا مراحيض. يقضون حاجاتهم في العراء قرب خيامهم. لتتفاقم مأساتهم الصحية أكثر.

في كل خيمة قصة موت مؤجل أو حياة لم تفقد الإيمان بأن هؤلاء بشر يحيون على أرض الإنسانية.

يعيش السودان اليوم واحدة من أسوأ الأزمات البشرية في العالم. هذا ليس توصيفاً إنشائياً. هو واقع تؤكده أرقام الأمم المتحدة التي تقدر حجم النزوح الداخلي بنحو 13 مليون شخص، إضافة إلى نحو 30 مليون شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية لا يصل منها إلا القليل.

مدن بأكملها دُمرت بشكل ممنهج، بينها العاصمة الخرطوم التي سُويت بعض أحيائها أرضاً ومعظم مرافقها الحيوية، من مستشفيات ومدارس. تماماً كما معظم الولايات المتحولة مسرحاً للنزاع، والتي كانت يوماً مدناً وحواضر، وأصبحت الآن جغرافيا مفتوحة للدخان والرصاص.

هناك في المساحات المكسوة بالغبار والرماد فوق الدماء المنسية والدموع المخفية، وفي أحياء الفقر المدقع وانتفاء أبسط مقومات الحياة، تدرك أنه يمكن لعالم القرن الـ21، أن يتعامى عن موت شعب، وأن يتجاهل إبادة فعلية. وتتأكد أن الألم، على عكس ما كنا نتوهم أو نتأمل، لا وقع له إلا على جسد الضحية. ولا صوت للضحايا في عالم صاخب بالجنون.

كل من يدخل السودان في مهمة صحافية، يتحول هناك إلى صوت صارخ للإنسانية، وأنا لن أكون استثناءً.

فهذه ليست كلمات. هي محاولة أداء واجب، برفع كل صوت، إلى كل العالم. لا حرب في السودان، بل مأساة، حيث الحاجة ماسة داهمة إلى ضغط دولي حقيقي لفتح ممرات إنسانية عاجلة ولتمويل فوري ولبرامج دعم إنسانية لملايين مهددين بكل أشكال الموت.

والاستجابة مطلوبة فوراً، تحت طائلة ارتفاع أرقام الضحايا.

وذلك بشكل متزامن مع مساعي الحل السياسي الذي ترعاه السعودية بالتنسيق مع الدول المعنية بالنزاع. وإلا فالمنطقة كلها أمام كارثة ستتشظى على الجميع، هجرات غير شرعية بالملايين.

أغادر مخيم الضحايا وأغادر السودان، ولا شيء من الاثنين يغادرني. تصير مسكوناً بشعور الموت قهراً أو جوعاً. كأن الظلم يدخل مسامك. يصير جلدك الثاني. لا يمكن لمرء أن يخلع جلده. لا يمكن لإنسان أن يسكت عن ظلم.