الدواء الذي يُسبب الصداع.. سرّ المرض الذي نصنعه بأيدينا

متابعات – نبض السودان

في مفارقة طبية مثيرة، كشفت دراسات حديثة أن مسكنات الصداع التي يعتمد عليها ملايين البشر يوميًا قد تكون في الواقع السبب الخفي وراء استمرار الصداع أو تفاقمه. هذه الظاهرة التي يُطلق عليها 'الصداع الناتج عن الإفراط في تناول الأدوية' باتت تثير قلق الأطباء حول العالم، خصوصًا مع تزايد حالات الاعتماد على المسكنات دون إشراف طبي

دوامة الألم والدواء

رغم أن الصداع يُعدّ عرضًا شائعًا يمكن أن يُصيب أي شخص، فإن غالبية الحالات ليست ناتجة عن أمراض خطيرة كما يعتقد البعض، فوفقًا للإحصاءات أقل من 1% فقط من حالات الصداع ترتبط بأورام في المخ. لكن مع ذلك، فإن سوء التعامل مع نوبات الصداع قد يُحوّل الألم المؤقت إلى معاناة مزمنة يصعب كسرها

ويؤكد الدكتور دان بومغاردت، المحاضر في كلية علم النفس وعلم الأعصاب بجامعة بريستول، أن الطبيب العام عليه أن يتعامل مع الصداع كـ'لغز طبي' يتطلب فحصًا شاملًا وتاريخًا مرضيًا دقيقًا، لتحديد ما إذا كان الصداع حميدًا أم يُخفي وراءه مشكلة أعمق

حينما يُصبح العلاج هو السبب

ما لا يعلمه كثيرون أن الصداع قد ينتج عن الإفراط في تناول الأدوية المسكنة نفسها. وتظهر الأعراض غالبًا لدى من يتناولون مسكنات الألم بانتظام لأكثر من ثلاثة أشهر، لتبدأ بعدها حلقة مفرغة من الألم تتكرر كلما تناول المريض الدواء الذي كان من المفترض أن يُخففه

وتشير التقديرات إلى أن نسبة الإصابة بالصداع الناتج عن الإفراط في تناول الأدوية تتراوح بين 1 إلى 2% من السكان، وهي أكثر شيوعًا بين النساء بثلاث إلى أربع مرات مقارنة بالرجال. ويُرجع الأطباء السبب إلى المسكنات ذاتها، خصوصًا تلك التي تحتوي على مواد أفيونية مثل الكودايين، لما لها من آثار جانبية متعددة تبدأ بالإمساك والنعاس ولا تنتهي عند حدود الهلوسة والصداع

ليست المسكنات القوية وحدها

حتى الباراسيتامول ومضادات الالتهاب غير الستيرويدية مثل الإيبوبروفين ليست بريئة من هذا الاتهام، إذ يمكنها أيضًا أن تُسبب الصداع إذا أُسيء استخدامها أو تم تناولها بجرعات مفرطة. الأخطر من ذلك أن بعض الأدوية التجارية تجمع بين الباراسيتامول والمكونات الأفيونية مثل الكوكودامول، ما يضاعف خطر الاعتماد الجسدي والنفسي عليها

كما حذر الخبراء من أن الجرعات الزائدة من المسكنات قد تُسبب فشلًا كبديًا قاتلًا في بعض الحالات، مؤكدين أن حتى الاستخدام المنتظم لجرعات بسيطة من الباراسيتامول قد يؤدي إلى صداع مزمن لدى فئة من المرضى

التريبتانات… دواء الصداع النصفي الذي قد يسبب صداعًا

ومن المفارقات أيضًا أن أدوية التريبتانات، المخصصة لعلاج نوبات الصداع النصفي، قد تؤدي إلى النتيجة العكسية إذا استُخدمت بكثرة. فالاستخدام المتكرر لتلك الأدوية يزيد احتمالية الإصابة بـ'الصداع الناتج عن الإفراط في تناول الدواء'، لتُضاف إلى القائمة الطويلة من العقاقير التي تتحول من علاج إلى مشكلة

كم يومًا من المسكنات تُعدّ خطرًا؟

بحسب الأطباء، فإن تناول الباراسيتامول أو مضادات الالتهاب غير الستيرويدية لأكثر من 15 يومًا في الشهر قد يؤدي إلى الإصابة بهذا النوع من الصداع، بينما قد يكفي تناول المواد الأفيونية لعشرة أيام فقط شهريًا لظهور الأعراض. ولهذا، ينصح الأطباء بعدم استخدام أي مسكن لفترات طويلة دون استشارة طبية

العلاج… معركة نفسية وجسدية

علاج الصداع الناتج عن الإفراط في تناول المسكنات ليس بالأمر السهل، إذ يصعب على المرضى تصديق أن الدواء الذي يخفف آلامهم هو في الحقيقة مصدر المشكلة. وغالبًا ما يتطلب العلاج التوقف التدريجي عن تناول الدواء تحت إشراف طبي، وهي عملية قد تُسبب قلقًا وخوفًا لدى المرضى من تفاقم الألم مؤقتًا قبل التحسن

ويُشدد الأطباء على أن العلاقة بين الطبيب والمريض في هذه المرحلة ضرورية جدًا، لتأكيد التشخيص ومراقبة التحسن ووضع خطة علاجية واقعية

المراقبة والمتابعة اليومية

ينصح الخبراء كل من يُعاني من الصداع لأكثر من 15 يومًا شهريًا بمراجعة الطبيب فورًا، مع الاحتفاظ بمذكرات يومية لتسجيل الأعراض وتفاصيل النوبات، لأن هذه الملاحظات تساعد الأطباء في تحديد النمط الدقيق للصداع ووضع العلاج المناسب

لغز لا يزال دون حل

رغم أن الطب يعرف العلاقة بين المسكنات والصداع، إلا أن الآلية البيولوجية الدقيقة وراء هذه الظاهرة ما زالت غير مفهومة تمامًا. لكن المؤكد هو أن التوقف عن الإفراط في تناول المسكنات كفيل بإنهاء الحلقة المفرغة التي يعيشها المرضى أحيانًا لسنوات

وفي النهاية، يبقى الصداع الناتج عن الإفراط في تناول الأدوية رسالة تحذيرية من الجسد نفسه، تدعو إلى التوقف عن الاعتماد العشوائي على الأدوية والعودة إلى الحل الأهم: استشارة الطبيب قبل تناول أي دواء، مهما بدا بسيطًا