اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٥ نيسان ٢٠٢٥
تقف الخرطوم في الحرب الحالية كنموذج صارخ لما يحيط بالمنطقة من رؤى متضاربة لمستقبل السلام
تشهد العلاقات بين السودان وكينيا توتراً متزايداً لا يختزل في الحرب الحالية، بل يمتد إلى جذور تاريخية متشابكة ذات أبعاد سياسية وإثنية وجيوسياسية، وعلى رغم غياب نزاع مباشر معلن بين البلدين، ظل مسار العلاقة متأرجحاً وفقاً لاتجاه رياح العلاقات في منطقة شرق أفريقيا المضطربة، ومتأثراً بالتنافس المتصاعد على النفوذ الإقليمي، لا سيما في أعقاب اندلاع الحرب في السودان منذ أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش وقوات 'الدعم السريع'.
تمثل كينيا مثار جدل خلال هذه الأزمة إضافة إلى تشاد وليبيا ودولة جنوب السودان، إذ يتهمها السودان بالانحياز إلى 'الدعم السريع'، وبتبني مواقف تقوض فرص الحل السياسي. وبلغت الأزمة ذروتها في فبراير (شباط) الماضي، عندما استضافت نيروبي اجتماعات لقوى المعارضة السودانية المتحالفة مع 'الدعم السريع'، أعلنت خلالها ما سمي 'الحكومة الموازية'، ووقعت على ما عرف بـ'ميثاق السودان التأسيسي'، وهو ما عدته الحكومة السودانية تصعيداً مباشراً يمس سيادتها وأمنها القومي.
كان الاعتراض المباشر على هذا التحرك ممثلاً في اتهام وزارة الخارجية السودانية كينيا بتجاوز الخطوط الحمراء، مؤكدة أن الرئيس الكيني ويليام روتو، في نظرها، طرف منحاز في الصراع، بل ومتواطئ مع 'الدعم السريع'، وفي المقابل بررت كينيا موقفها بدافع السعي نحو إحلال السلام في السودان، إلا أن هذه التبريرات فشلت في نزع فتيل التوتر أو ترميم جسور الثقة.
على رغم توفر العوامل المؤدية إلى توتر العلاقات بين البلدين، لكن فسر جزء مما يجري بينهما على أنه انعكاس لصراعات أعمق حول الشرعية والتحالفات في شرق أفريقيا، فالخلاف يعكس أزمة ثقة أعمق تتعلق بطبيعة النظام الإقليمي في المنطقة، وتوازنات القوى بين الفاعلين المحليين والدوليين، في ظل واقع إقليمي هش وظروف داخلية معقدة تتقاطع فيهما الطموحات السياسية مع الهويات القبلية.
ويقف السودان في الحرب الحالية كنموذج صارخ لما يحيط بالمنطقة من رؤى متضاربة لمستقبل السلام داخل الدولة، تتسع خلالها حدود التدخل والفشل في كسب ثقة محاولات الوساطة.
نزاع 'إيليمي'
تعود العلاقات السودانية - الكينية إلى بدايات القرن الـ20، حينما استعان الاستعمار البريطاني بمجندين سودانيين من أبناء جبال النوبة خلال حملته العسكرية لاحتلال كينيا بين عامي 1919 و1920. استقرت تلك العناصر لاحقاً في نيروبي، بعدما رفضت السلطات البريطانية إعادتهم إلى السودان، وأسكنت بعضهم في منطقة غابية هامشية أطلق عليها اسم 'كبيرا' وتعني 'الغابة الصغيرة' بلغة النوبة، التي تحولت لاحقاً إلى 'كبرا'، أحد أكبر الأحياء العشوائية في أفريقيا.
ربطت بريطانيا مستعمرتي السودان وكينيا بعلاقات تجارية تكاملية، إذ كان السودان يصدر القطن والحبوب الزيتية والكركدي والعطور، في مقابل استيراد الشاي والبن والعسل الكيني، وعقب استقلال كينيا عام 1963 سارعت إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع السودان، الذي سبقها إلى الاستقلال عام 1956.
مع اندلاع التمرد في جنوب السودان بقيادة حركة 'أنانيا' التي تعني (سم الثعبان الأسود)، بقيادة الجنرال جوزيف لاقو، تحولت كينيا إلى ملاذ لقادة التمرد، إلا أن دعمها لم يكن مطلقاً، ففي بدايات عهد الرئيس جعفر النميري عام 1969 قدمت الأجهزة الأمنية الكينية معلومات ودعماً لوجيستياً للسودان، مما أسهم في اعتقال عدد من قادة التمرد وتسليمهم للخرطوم، وصولاً إلى اتفاقية أديس أبابا عام 1972 التي أنهت تمرد 'أنانيا'.
غير أن عقد الثمانينيات حمل معه توتراً جديداً على خلفية اتهامات سودانية لكينيا بدعم حركات انفصالية جنوبية. وفي الوقت ذاته كانت نيروبي تطالب بمثلث 'إيليمي' الاستراتيجي المتنازع عليه، الذي ضمته بريطانيا إدارياً لكينيا إبان الحقبة الاستعمارية. ويمتد المثلث على مساحة رعوية غنية بالنفط تناهز 14 ألف كيلومتر، وتتقاطع فيها مصالح خمس دول في الأقل، وتستوطنه قبائل رعوية عابرة للحدود، منها التوركانا والتوبوسا والديدنغا والنيانغاتوم والداساناش، التي ترتبط بجذور إثنية ممتدة من السودان وكينيا وإثيوبيا وحتى أوغندا، وقد تصاعد النزاع حين أدرجت كينيا المثلث ضمن خريطتها الجديدة عام 1986، مما دفع السودان إلى إعلان نيته اللجوء إلى القانون الدولي مدعوماً بوثائق تثبت حقوقه.
وعلى رغم تلك التوترات شهدت التسعينيات انفراجاً لافتاً، إذ لعب الرئيس الكيني حينذاك دانيال أراب موي دوراً محورياً في تعزيز العلاقات وتوسيع التبادل التجاري، بل وتوسط في إطلاق سراح أسرى سودانيين، مما أعاد بعض التوازن إلى مسار العلاقات بين البلدين.
دعم الانفصال
تصدرت كينيا جهود الوساطة التي أفضت إلى توقيع اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، وهي الخطوة التي مهدت لانفصال جنوب السودان في 2011، فقد احتضنت نيروبي عبر مظلة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، جولات التفاوض بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، حيث شكلت مفاوضات نيفاشا تتويجاً لمسار طويل من الحوار، بدأ ببروتوكول مشاكوس في يوليو (تموز) 2002، الذي ألزم الطرفين الوصول إلى تسوية سلمية تعزز خيار الوحدة.
لم تخل قراءة الخرطوم الدور الكيني من الشك، فقد رأت فيه اصطفافاً ضمن مشروع دولي، تقوده العواصم الغربية عبر نيروبي، لإعادة صياغة خريطة السودان وتقويض هويته الهجين (العربية - الأفريقية)، وازدادت هذه القناعة ترسخاً نتيجة العلاقة الوثيقة التي ربطت كينيا بقيادات الحركة الشعبية، وعلى رأسهم جون قرنق وسلفا كير، مما جعل النخبة السودانية تنظر إلى كينيا كميسر منحاز لا كوسيط محايد.
جاءت وثيقة 'ناكورو' في يوليو (تموز) 2003، التي قدمتها 'إيغاد' عبر الوسيط الكيني الجنرال لازاروس سيمبويا، تحمل الخطوط العريضة لاتفاق شامل ونهائي ليضع حداً للحرب الأهلية، وقد رفضت حكومة الخرطوم الوثيقة واعتبرتها غير متوازنة وتكرس للانفصال وتجعل الجنوب حكراً على الحركة الشعبية، في حين قبلتها الحركة الشعبية، وسعت 'إيغاد' إلى فرضها.
انعكست هذه الملابسات على مجمل النظرة السودانية لدور كينيا في مرحلة ما بعد انفصال الجنوب عام 2011، فباتت نيروبي في مخيلة النظام السابق طرفاً فاعلاً في تشظي البلاد، لا مجرد راع لعملية سلام، كذلك رسمت كينيا عبر ملف جنوب السودان حدوداً جديدة لعلاقتها بدولة الجنوب، فقد أطلقت حكومة جنوب السودان اتهامات ضد القوات الكينية في فبراير (شباط) 2023 بمحاولة السيطرة على بلدة ناكودوك التي تقع في المنطقة الرمادية في مثلث إيليمي، إذ اعتبرته نقضاً لاتفاق عام 2019 الذي ينص على تشكيل لجنة مشتركة لحل الصراع حول المثلث والمناطق الحدودية المجاورة، وهو اتفاق تنشيطي لسابق مبرم عام 2009 لإنشاء نقطة حدودية في نادابال، على عمق 10 كيلومترات داخل الأراضي الكينية.
تموضع جيوسياسي
مثل وصول ويليام روتو إلى رئاسة كينيا عام 2022 نقطة تحول في العلاقات السودانية - الكينية، وعلى رغم استقرار هذه العلاقات بعد سقوط نظام عمر البشير عام 2019، لم تشهد تطوراً نوعياً، وبقيت ضمن إطار البروتوكولات الدبلوماسية.
تقارير عدة أشارت إلى علاقة مبكرة جمعت روتو بقائد 'الدعم السريع' محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تعود إلى زيارة سرية لروتو إلى السودان عام 2020، تضمنت اطلاعاً على مواقع لتعدين الذهب، وتنسيقاً مع رجال أعمال نافذين، ويعتقد أن حميدتي دعم حملة روتو الانتخابية، مقابل تسهيلات في تجارة الذهب وشبكات التهريب.
مع اندلاع الحرب في السودان ترأست كينيا لجنة الوساطة التابعة لـ'إيغاد'، لكن الخرطوم رفضت وساطتها، متهمة إياها بالانحياز لقوات 'الدعم السريع'، وبينما تروج كينيا لتحركاتها باعتبارها جهوداً لإنهاء الحرب، ترى الخرطوم أن روتو تجاوز الحياد، وانتظم في صراع داخلي معقد خدمة لمصالح اقتصادية وشخصية.
لفهم هذا الانتظام، لا بد من النظر إلى البنية القبلية والسياسية المعقدة في السودان، إذ تستند القوات المسلحة إلى التحالفات القبلية التاريخية في الشمال، بينما تعتمد قوات 'الدعم السريع' على ميليشيات من غرب السودان، خصوصاً دارفور، لذلك فإن دعم كينيا المتصور لحميدتي يفهم في الخرطوم كاستمرار لاستراتيجيتها بالتعامل مع جهات غير حكومية، كما فعلت مع متمردي جنوب السودان والفصائل الصومالية.
كثيراً ما مثلت كينيا ركيزة محورية في الاستراتيجية الغربية والأميركية في شرق أفريقيا، باعتبارها دولة ديمقراطية مستقرة نسبياً ذات مؤسسات أمنية فعالة. هذا الموقع أهلها لتكون منصة عمليات إنسانية وعسكرية ودبلوماسية، إضافة إلى استضافتها مقار إقليمية رئيسة للأمم المتحدة ووكالات دولية. إن تقاطع مصالحها مع الأجندة الغربية، خصوصاً الأميركية والإسرائيلية، منحها دوراً سياسياً فاعلاً، لكنه في الوقت ذاته وضعها في مواجهة مباشرة مع أنظمة مثل النظام السوداني السابق والحالي، فبينما تقدم كينيا كوسيط في ملفات السلام الإقليمي يرى السودان في دورها انحيازاً مقنعاً يخدم أجندات مناوئة.
وفي المقابل يتجه السودان نحو تحالفات بديلة مع موسكو وطهران، في سياق إعادة تموضع جيوسياسي يعبر عن انقسام متصاعد في خريطة النفوذ الدولي بالقرن الأفريقي، ويحول الحرب السودانية إلى واجهة صراع دولي الطابع.
حرب الشاي
في ظل التصاعد الحاد للتوترات بين السودان وكينيا، أصبح الشاي محوراً للصراع التجاري والدبلوماسي بين البلدين، فقد أعلنت الحكومة السودانية في الـ11 من مارس (آذار) الماضي تعليق استيراد جميع السلع من كينيا، بما في ذلك الشاي الكيني، في خطوة احتجاجية على استضافة نيروبي ممثلين عن قوات 'الدعم السريع'.
ويشكل الشاي الكيني جزءاً كبيراً من التجارة الثنائية بين البلدين، ففي عام 2022 استورد السودان شاياً كينياً بقيمة بلغت 37 مليون دولار، ليكون من أكبر أسواق الشاي الكيني في المنطقة، ومع تصاعد النزاع السياسي تراجعت هذه الواردات إلى 18 مليون دولار عام 2024، مما يعكس التأثير المتزايد للصراع في التجارة بين البلدين.
تداعيات هذا الحظر واضحة في قطاع الشاي الكيني، الذي يعتمد بشكل كبير على السودان كأحد أسواقه الرئيسة، فكينيا التي تعد أكبر منتج ومصدر للشاي في المنطقة، يشكل الشاي 80 في المئة من إجمال الصادرات عبر ميناء مومباسا. هذه الأزمة، التي تضاف إلى النزاع المستمر في السودان، من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من تدهور هذا القطاع المهم بالنسبة إلى الاقتصاد الكيني، الذي شهد انخفاضاً بنسبة 7.07 في المئة في صادراته إلى السودان على مدى الأعوام الخمسة الماضية.
كذلك فإن حظر الاستيراد يشمل جميع السلع الكينية الأخرى، مثل الأغذية والأدوية، مما يعكس استخدام التجارة كأداة ضغط دبلوماسي من قبل السودان، وفي ظل هذه الأوضاع أصبحت التداعيات الاقتصادية لهذا الصراع تهدد استقرار الاقتصاد الكيني، في حين يشير مراقبون إلى أن الأزمة ستنعكس على الحياة اليومية في السودان، حيث يواجه المواطنون زيادة في أسعار الشاي، وهو منتج استهلاكي أساس. وعليه أصبح الشاي الكيني جزءاً من معركة سياسية أكبر وتوترات متصاعدة بانتظار تسوية دبلوماسية تضمن استعادة التجارة بين البلدين، وإنهاء معاناة مئات الآلاف من المزارعين والتجار الذين يعتمدون على هذا المحصول.
صراع المحاور
بما أن منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي تشهد تصاعداً في صراع المحاور الإقليمية، إذ تتداخل الطموحات الجيوسياسية مع الحسابات الاقتصادية والعسكرية، فإنه تجسد بوضوح في التوتر بين السودان وكينيا، الذي لم يعد خلافاً ثنائياً فحسب، بل بات انعكاساً لمعادلة إقليمية أوسع تتشكل بين محور (الخرطوم - القاهرة - أسمرا) من جهة، ومحور (نيروبي - كمبالا - أديس أبابا) من جهة أخرى، هذا الصراع يغذيه سعي كل محور إلى ترسيخ نفوذه في ملفات السلام والتجارة والتحالفات الأمنية.
برزت كينيا كفاعل طموح يسعى إلى توسيع نفوذه في القرن الأفريقي عبر مشروع ممر 'لابست' الذي يربط ميناء لامو بكل من إثيوبيا وجنوب السودان، مما يهدد مكانة ميناء بورتسودان كممر تجاري إقليمي، وتخشى الخرطوم من أن يؤدي هذا المشروع إلى تهميش دورها الجغرافي وتحويل إثيوبيا إلى شريك استراتيجي لكينيا على حساب العلاقات الإثيوبية - السودانية التقليدية.
أما إثيوبيا فتسعى إلى فك ارتباطها التاريخي بالموانئ السودانية، مفضلة خيارات أكثر استقراراً وتنوعاً عبر جيبوتي وكينيا، وهو ما يضعف أوراق الخرطوم التفاوضية إقليمياً، في الوقت نفسه يشهد التنسيق الاستخباراتي والعسكري بين كينيا وإثيوبيا وأوغندا تنامياً لافتاً، في إطار جهود مواجهة التهديدات العابرة للحدود، مما يزيد من حدة مخاوف السودان من تحول هذا التحالف إلى تكتل معاد ضمنياً.
لذلك وغيره تحاول الخرطوم الدفع نحو تهميش الدور الكيني في الوساطة، مفضلة أطرافاً ترى أنها أكثر حياداً كالجزائر أو جنوب أفريقيا، لكن تعقيد المشهد وتعدد اللاعبين الدوليين، من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى روسيا وإيران، يجعل من النزاع السوداني - الكيني أحد تجليات صراع النفوذ العالمي على الممرات الاستراتيجية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، في منطقة تتنامى فيها أهمية الموقع أكثر من أي وقت مضى.
سيناريوهات محتملة
مع انزلاق السودان إلى أتون هذا الصراع، وصعود كينيا كمركز دبلوماسي إقليمي، لا يزال مسار علاقاتهما الثنائية غامضاً، وبينما تتشكل التوترات الحالية بفعل المواقف المتضاربة في شأن الحرب والوساطة الإقليمية، تتجلى سيناريوهات عدة تحدد احتمالات مستقبل العلاقات السودانية - الكينية.
السيناريو الأول، التقارب الاستراتيجي من خلال الدبلوماسية الإقليمية، إذ يمكن إعادة التوازن الدبلوماسي من خلال تعزيز التعاون المتعدد الأطراف، وتعيد كينيا تموضعها كلاعب متوازن من خلال تخفيف انفتاحها على 'الدعم السريع'، والتركيز على الدبلوماسية بين الدول بدلاً من التعاملات الموازية، ويسهم في تحقق هذا السيناريو لعب 'إيغاد' دور وساطة فاعل إضافة إلى حاجة البلدين إلى استمرار التعاون الاقتصادي.
أما السيناريو الثاني فتستمر العلاقات في التوتر على مستوى مستقر، ومشاحنات دبلوماسية متقطعة، ولكن من دون قطع للعلاقات، فيمكن أن تحافظ الدولتان على مواقفهما الاستراتيجية المتباينة، لكنهما تتجنبان المواجهة المباشرة، فربما تواصل كينيا انتظامها مع 'الدعم السريع' وتحالفاتها الإقليمية، بينما يسعى السودان إلى تحالفات بديلة أيضاً.
والسيناريو الثالث هو حدوث قطيعة مطولة واستقطاب إقليمي، بتحول انعدام الثقة المتبادل إلى قطيعة هيكلية، وعلى أثره يخفض السودان رسمياً مستوى العلاقات، وقد يطرد دبلوماسيين كينيين أو يجمد الاتفاقات الثنائية. وتضاعف كينيا دعمها الجهات السياسية البديلة في السودان، وتتوافق بشكل أوثق مع الاستراتيجيات الغربية التي تهمش قيادات الجيش السوداني، إذ تتماشى السياسة الداخلية الكينية مع الدعوات الخارجية لإرساء الديمقراطية في السودان، مما يفشل محاولات الوساطة الإقليمية التي يقودها الاتحاد الأفريقي.
السيناريو الرابع يتمثل في امتداد الأزمة الإقليمية وتفككها، ونشوء أزمة إقليمية ناجمة إما عن انهيار السلطة المركزية في السودان أو عن سيناريو حرب بالوكالة، تجر الدول المجاورة إلى ساحة الصراع، فتجد كل من كينيا والسودان نفسيهما على طرفي نقيض في مصفوفة صراع أوسع في شرق أفريقيا. ويتهم الجيش السوداني كينيا برعاية عناصر مزعزعة للاستقرار، بينما تتهم كينيا السودان بالتحالف مع جهات عسكرية معادية للغرب، وينشط من هذا السيناريو ملامح انهيار الدولة السودانية وامتداد الأزمة إقليمياً إلى جنوب السودان وإثيوبيا، وتصاعد التنافس الدولي، والتعبئة القبلية والإثنية عبر الحدود، مدفوعة باقتصادات الصراع.
عقلية الحصار
يعكس النزاع السوداني - الكيني في جوهره، إجماعاً إقليمياً مفككاً حول معايير السيادة والتدخل والوساطة، وقد خلقت استراتيجية كينيا فجوة في الصدقية في السودان، في غضون ذلك لا تزال قيادة الجيش عالقة في نموذج يعتبر أي تدخل خارجي، حتى ولو من باب الوساطة، تهديداً لسلطتها المركزية، وعدم الوصول إلى سلام ربما يشير إلى حاجة المؤسسات الإقليمية إلى إعادة ضبط هيكل الوساطة ومعالجة اختلالات القوة الكامنة واتباع نهج دبلوماسي شامل ومتوازٍ.
العلاقة بين السودان وجواره الإقليمي في ظل هذه الحرب تعكس طبيعة التعامل مع مستقبل معقد، فالمرجح أن يتأثر مستقبل العلاقات السودانية - الكينية بشكل أقل بالدبلوماسية الثنائية، وبشكل أوسع بالتكوينات الإقليمية والدولية، استناداً إلى طموح كينيا لقيادة المنطقة، ولأن السودان لا يزال عالقاً في عقلية الحصار، ومتأثراً بالخسائر الإقليمية والتمردات الداخلية، ويرى في كينيا قناة للتدخل الغربي، وما لم يتم إرساء إطار عمل جديد للوساطة الإقليمية وبناء الثقة والحوار الشامل، فقد يتطور قوس الأزمات من انعدام الثقة إلى قطيعة دائمة، أو تتطور الحرب إلى صراع إقليمي ليس فقط بين السودان وكينيا، بل في المنطقة بأكملها.