اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٤ كانون الأول ٢٠٢٥
لم يبق سوى أرض مدمرة وبقايا أشجار متفحمة قُتل أهلها حرقاً ونزح من نجا منهم
بدأت ملامح الحرب السودانية التي أوشكت على إكمال عامها الثالث، في تشكيل جغرافيا جديدة وإبدال خرائط المدن والقرى والبلدات على نحو لم يحدث في خضم الحروب السابقة، وذلك بأن حرب الجنوب وحرب دارفور، اقتصرتا على أقاليمها فقط، أما هذه الحرب الأخيرة، فقد انتزعت من السابقتين لقب الحرب الأهلية التي غطت جغرافيا واسعة من السودان. برز النزوح الداخلي بوصفه أحد أكثر ملامح الأزمة تعقيداً واتساعاً. فمنذ اندلاع الصراع، تشكلت موجات بشرية متتابعة، خرجت من مناطق لم تعد صالحة للحياة أو فقدت الحد الأدنى من الأمان، واتجهت نحو مدن وبلدات أخرى ظن أهلها أنها أكثر استقراراً، قبل أن يعودوا في دورات متوالية من الحركة، تعكس وضعاً هشاً يتأرجح بين النزوح والعودة وفق تبدل خطوط المواجهة. هذا الحراك السكاني المضطرب لم يكن مجرد استجابة ظرفية، بل تحول مع الزمن إلى نمط مستمر يعيد رسم الواقع الديمغرافي للبلاد.
أفرزت الحرب شبكة متغيرة من مناطق الطرد والجذب، مناطق انهار فيها الأمن فغادرها سكانها، وأخرى تحسن فيها الوضع نسبياً فاستقبلت أعداداً كبيرة من الوافدين. ومع تراكم هذه التحركات، بدأت تتبدل البنية السكانية لمناطق بأكملها، لا سيما مع حركة النزوح من غرب السودان نحو شماله، وهي ظاهرة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية عميقة. وإذا ما أحسنت الدولة إدارة هذه التحولات عبر تخطيط حضري واع وتوفير بنى خدماتية قادرة على الاستيعاب، فقد تتحول هذه الأزمة الإنسانية إلى فرصة لتعزيز التعايش بين المكونات المجتمعية المختلفة، وتوسيع قاعدة الاندماج الوطني، وبناء مدن أكثر تنوعاً وتوازناً.
غير أن الوجه الآخر لهذا التحول لا يقل خطورة، إذ قد تفضي التحركات العشوائية إلى نشوء مناطق سكنية غير مخططة، تحمل بذور التوتر المستقبلي. فالتجارب السابقة تظهر أن غياب الإدارة الرشيدة أنتج أحياء مكتظة تعاني ضعف الخدمات وانعدام التنظيم، كما حدث في بعض عشوائيات العاصمة التي توسعت خلال موجات النزوح إبان حرب دارفور 2003. وينطبق الأمر ذاته على ما عرف بمعسكرات بدأت كنقاط تجمع طارئة ثم تحولت إلى كتل سكانية كبيرة خارج إطار التخطيط الرسمي، وكذلك مناطق مثل 'الكمبو' في ولاية الجزيرة التي نشأت على هامش المدن الزراعية واتسعت بفعل الضغوط الاقتصادية والنزوح المتكرر.
أصبح النزوح الداخلي والخارجي السمة الأبرز لإعادة توزيع السكان على نطاق واسع، فقد سجلت المنظمة الدولية للهجرة نزوح أكثر من 8 ملايين شخص داخل البلاد، موزعين بشكل رئيس بين الخرطوم 31 في المئة، وجنوب دارفور 21 في المئة، وشمال دارفور 20 في المئة، وهي ولايات شكلت بؤراً مركزية للصراع. ويقيم نحو 47 في المئة من الأسر النازحة ضمن مساكن مستضيفة، في نمط يعكس هشاشة الوضع واستنزاف قدرات المجتمعات المحلية التي تحملت أعباء الاستضافة.
وعلى مستوى العائدين عبر الحدود، يعكس المشهد درجة التعقيد ذاتها، فمنذ يناير (كانون الثاني) 2024، عاد ما يُقدر بـ 272 ألف شخص من مصر إلى السودان، في وقت تجاوز عدد الفارين إلى الدول المجاورة 4 ملايين شخص، خصوصاً إلى مصر وتشاد وجنوب السودان، وفق تقارير الأمم المتحدة. وعلى رغم هذا اللجوء الهائل، شهدت البلاد خلال عام 2025 تحولاً نسبياً، إذ انخفض عدد النازحين داخلياً بنحو مليون شخص، ويُعزى هذا التراجع جزئياً إلى عودة متزايدة إلى مناطق السكن الأصل التي شهدت تراجع الصراع فيها. وتصدرت ولايات الشرق معدلات الانخفاض النسبي في عدد النازحين، كسلا 20 في المئة والبحر الأحمر 14 في المئة ونهر النيل 11 في المئة، بعد أن عاد جزء كبير ممن كانوا يستقرون فيها إلى ولاياتهم الأصلية في الخرطوم والجزيرة وسنار وغيرها. ومع ذلك، لا تزال ولايات دارفور، خصوصاً مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، تشهد موجات نزوح متكررة منها نتيجة تجدد الاشتباكات، مما يعيد إنتاج الأزمة بوتيرة مستمرة.
وفي سياق النزوح نحو الملاذات الأكثر استقراراً، استقبلت ولاية البحر الأحمر، بخاصة مدينة بورتسودان، نحو 250 ألف نازح داخلي خلال 2024–2025، مستفيدة من بعدها عن خط النار ووجود موانئ ومطار يسهل العبور. ومع مطلع 2025، بدأت بعض الأسر رحلة العودة الطوعية إلى الخرطوم بعد استعادة أجزاء محدودة منها. غير أن البيانات الإحصائية تظهر جزءاً فقط من الواقع، فكثير من الأسر عاشت نزوحاً أولياً وثانوياً ومتكرراً، ما يجعل تتبعها تحدياً كبيراً. وقد خلفت الحرب أيضاً تحولات عميقة في الريف، إذ تفككت قرى بكاملها، وتوقفت الدورة الزراعية، وتضررت البنى التحتية الأساسية، الأمر الذي ينذر بأزمات مستقبلية تتعلق بفقدان الأراضي وانهيار الإنتاج الزراعي وزيادة الضغط على المدن ومخيمات النزوح، ما يعمق هشاشة المشهد الإنساني ويطيل أمد تبعات الحرب لأعوام مقبلة.
في قلب هذا التحول المأساوي برزت ظاهرة 'مدن الأشباح' التي تمددت من العاصمة إلى الأقاليم، كاشفة عن البعد الإنساني والجيو-ديمغرافي للنزاع وارتداداته العميقة على النسيج السكاني. كانت الخرطوم قبل الحرب مركز الدولة السياسي والاقتصادي وملتقى حركة التجارة والخدمات، لكن مع اشتداد القتال، تحولت إلى 'ثكنة عسكرية'، إذ غادر معظم سكانها أحياء بأكملها، وبدت الشوارع فارغة والبنية التحتية مدمرة أو مهجورة. توقفت المستشفيات والأسواق ووسائل النقل، وانطفأت الحياة الحضرية التي طالما ميزت العاصمة.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، سيطرت قوات 'الدعم السريع' على الفاشر بعد حصار دام أكثر من 500 يوم، وأفادت تقارير عدة بوقوع مذابح واسعة ودفن جماعي لعشرات الآلاف. باتت أسواق المدينة مهجورة ومرافقها مدمرة، ونزح معظم أهلها حتى تحولت إلى مدينة شبه خالية، وبعد أن كانت أحد أهم مراكز دارفور الحضرية والتجارية، صارت رمزاً للنكبة الجماعية والانهيار الاجتماعي.
ولم يقتصر التحول على المدن فقط، بل إن بلدات ومحليات شهدت تبدلاً مستمراً. فمحلية طويلة بالقرب من الفاشر شهدت تبادل السيطرة بين قوات 'الدعم السريع' وحركة 'جيش تحرير السودان' بقيادة عبد الواحد محمد نور. وتكررت موجات النزوح منها نحو معسكرات أبو شوك وزمزم والسلام، ثم عاد جزء منهم مع تحسن الأمن لفترة وجيزة. وأشارت تقارير إلى وفاة أطفال جوعاً في ظل انهيار الخدمات. المدينة اليوم شبه مهجورة، بعد أن تحولت من مركز ريفي نشط إلى مساحة إنسانية منكسرة. وكذلك مثلت بارا في شمال كردفان نموذجاً للبلدات الريفية التي بدت بمنأى عن الحرب، لكنها انهارت سريعاً مع اتساع القتال. نزح منها نحو 2000 شخص في موجة واحدة فقط، وتفرقوا بين العاصمة وولايات أخرى.
وقبل هذه الأحداث، كانت قد تعرضت قرى ولاية الجزيرة الزراعية وسط السودان، مثل تمبول وديم الياس وزرقة والسريحة، إلى معارك محتدمة بين الجيش وقوات 'الدعم السريع' في محاولة لفرض السيطرة، ما أدى إلى نزوح آلاف السكان وفق تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فتوقفت الزراعة وانهارت البنية الريفية، وتغيرت خريطة الريف الزراعي جذرياً.
تلاشي المدن والقرى التي طاولتها الحرب في السودان، لا يعبر عن اختفاء مادي فحسب، بل يعكس حالة أكثر تعقيداً وعمقاً، يوحي بغياب مظاهر الحراك الاجتماعي والاقتصادي، وتلاشي بريق الحياة. فبعض الأماكن قد يعود إليها القليل، أو تنهض من جديد بعد حين، لكن أثر ما جرى يبقى مطبوعاً في جغرافيتها ووجدان سكانها، كندبة يصعب محوها.
قبل الحرب، كانت قرى مثل بريدك وأنكا وأمراي وبعاشيم وحلف وبئر مزة وبقر ومتي وأبوعاشوا وجايو جية وغيرها، فضاءات ريفية مستقرة، بيوت طينية متقاربة وزراعة موسمية وقطعان ماشية ومجتمع متماسك قائم على العادات والتضامن، غير أن الحرب قلبت هذه الصورة رأساً على عقب. وثقت تقارير 'هيومن رايتس ووتش' كيف تعرضت هذه القرى بالقرب من محلية كُتُم في ولاية شمال دارفور العام الماضي 2024 لهجمات مسلحة وحرق منظم، بدعوى دعمهم للقوات المشتركة الحليفة للجيش، حتى غدت أطلالاً. لم يبق سوى أرض مسطحة سوداء وبقايا أشجار متفحمة. قُتل أهلها حرقاً، ونزح من نجا منهم، وذابت الحياة التي كانت تدب فيها. وهي اليوم أشبه ببقع صامتة على خريطة البلاد.
تلاشي هذه القرى لا يعني فقط دمار البيوت، بل انهيار وظيفتها الإنسانية، لم تعد هناك سوق تجمع الناس ولا مركز صحي ولا نقطة مياه ولا مدرسة يذهب إليها الأطفال. اختفت شبكات الدعم التقليدية، وانهارت روابط الجيرة، وتحول المكان من موطن إلى ذكرى موجعة. وحتى إن عاد البعض، فإنهم يجدون أنفسهم في فراغ لا يشبه ماضيهم.
إن الحرق الشامل والانتهاكات الواسعة والنزوح القسري خلقت طبقة سميكة من الجراح الاجتماعية، فقدان الأرض وضياع المواسم الزراعية وتفكك البنى القبلية وتشظي الأسر. ولم تعد هذه القرى تؤدي دورها في الاقتصاد الريفي، ما خلق ضغطاً هائلاً على المدن التي استقبلت الناجين، وتسبب في اختلالات ديمغرافية طويلة المدى.
وعلى رغم أن بعض المناطق قد تستعيد حضورها لاحقاً، فإن كثيراً منها خسر رأس ماله البشري وبنيته الأساسية، ما يجعل إعادة إحيائها مهمة أشبه بإعادة خلق من الصفر. فالتلاشي هنا ليس لحظة، بل مسار خروج بطيئاً لروح المكان من جسده، ومسار طويل من الألم الإنساني الذي يعيد تشكيل جغرافيا السودان وذاكرته، قرية بعد أخرى.
لم تكن كثير من مناطق السودان سوى نقاط صغيرة على الخرائط، بعضها مجرد قرى زراعية هادئة وأخرى محطات عبور على طرق التجارة القديمة. لكن الحرب، بما أحدثته من تفكك ونزوح واسع، أعادت صياغة الجغرافيا، فارتقت هذه النقاط إلى صدارة الأخبار وتحولت إلى مراكز لآلاف الأسر الهاربة من العنف. نشأت بذلك 'مدن نزوح' ليست ازدهاراً عمرانياً، بل مرايا لحالة طوارئ إنسانية ممتدة.
في الولاية الشمالية، تمثل الدَبّة المثال الأوضح لهذا التحول، فبعد سقوط الفاشر وتفاقم العنف غرب البلاد، تدفقت موجات كبيرة من المهجرين شمالاً. تقارير متعددة أشارت إلى وصول ما يقارب 57 ألف نازح إلى الدبة وحدها، ما فرض على المدينة، الهادئة تاريخياً، واقعاً جديداً من الضغط على المأوى والبنية التحتية وفرص العمل. وهناك مخيم العفّاض على بُعد كيلومترات قليلة من الدبة. تحول الموقع من منطقة زراعية إلى فضاء واسع للخيام يضم نحو 700 خيمة، مع بنية إنسانية موازية، تكايا (مطابخ بالعون الإنساني) تقدم وجبات الطعام ومراكز صحية ثابتة ومتنقلة تشرف عليها منظمات محلية ودولية، أبرزها برنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الهجرة الدولية وأطباء بلا حدود في الدعم الطبي والغذائي.
وداخل المخيم، تتشكل حياة جديدة، أطفال يولدون كأنهم إعلان صامت عن استمرارية الحياة على رغم الحرب وشباب يعملون في مزارع النخيل مقابل أجور يومية ونساء ينشطن في مبادرات صغيرة كإعداد الخبز أو جمع الحطب. هذه التفاصيل اليومية، على بساطتها، تمنح المخيم ملمحاً إنسانياً يتجاوز سردية المأساة.
وهناك تجارب مشابهة، بدأت عند نزوح سكان الخرطوم بعد اندلاع الحرب مباشرة إلى ولاية الجزيرة، ثم بعد اجتياح الجزيرة انتقلوا إلى مدن سنجة وسنار في ولاية النيل الأزرق ثم مدن ومناطق شرق السودان. وهكذا يتكرر النموذج في مناطق أخرى من السودان، حيث تحولت إلى حواضن نزوح مفاجئة، بعضها كان مجرد قرى هامشية قبل أن تصبح مراكز مكتظة بالوافدين، حيث يعمل السكان الأصليون والنازحون على التعايش تحت ضغط الموارد المحدودة. هذا التداخل لا يعني دوماً استقراراً، فقد تنشأ توترات إثنية أو اقتصادية، أو تظهر أحياء عشوائية.
وبين احتمالات الاندماج البناء أو التوتر المتجدد، تتشكل جغرافيا جديدة في السودان، مدن تكبر بلا تخطيط وقرى تتضخم تحت ضغط الحاجة وأجيال تبدأ حياتها وسط الخيام، قد لا تكون مدناً مزدهرة، بل خرائط إنسانية قيد التشكل تحمل في ملامحها سؤالاً مفتوحاً حول مستقبلها، هل تتطور إلى فضاءات تعايش وإعادة إعمار؟ أم تتحول إلى بؤر جديدة للهشاشة والصراع؟


























