اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
في سياق سياسي مأزوم، تتنازع فيه أطراف الداخل والخارج، وتشتبك فيه الأولويات الوطنية مع حسابات الترضيات والتوازنات، جاءت حكومة الأمل برئاسة الدكتور كامل الطيب إدريس محاولةً لاجتراح طريق وسط بين الممكن والمتاح، وبين مقتضيات إدارة الدولة وإرث التشظي والتجريب.
منذ اللحظة الأولى، بدأ إدريس كمن يتبنى تكتيك 'امتصاص المفاجآت وترويض الساحة السياسية'، عبر تشكيل حكومي متدرّج لا يقطع الطريق أمام المكوّنات المختلفة، لكنه أيضًا لا يُفصح عن مشروع واضح المعالم. إنه نهج حذر، يسعى إلى تفكيك التعقيدات في الغرف المغلقة قبل طرحها للعلن، حيث تُدار السياسة السودانية عبر توازنات معقدة تتجاوز ظاهر القرارات إلى شبكات التأثير الخفية.
خمسة وزراء جُدد تم الإعلان عنهم أول أمس ضمن حكومة الأمل، حملوا أسماءً ذات كفاءة مهنية وخبرة إدارية، لكنها لم تخرج عن منطق 'التدوير' داخل الفلك السياسي القديم، خصوصًا فيما يتعلق بتمثيل حركات اتفاق جوبا. لم تكن هناك مفاجآت نوعية، بل استُعيدت وجوه معروفة، بعضها خاض تجارب انتقالية سابقة لم تُحرز اختراقًا ملموسًا.
وزراء مثل المهندس محمد كرتكيلا الحكم الاتحادي، والدكتور جبريل إبراهيم المالية، والدكتور عبدالله درف العدل، يُعدّون من الوجوه التي تملك أدوات العمل التنفيذي، بدرجات متفاوتة.
فجبريل، رغم ما يحيط به من خلاف سياسي، يملك خبرة اقتصادية مكنته من إدارة ملف الحرب بقدر من الحنكة، رغم التحديات. أما عبدالله درف، فاختياره يُعدّ حدثًا مفصليًا؛ فهو شخصية كرّست نفسها لحماية القانون، وإعادة الاعتبار لمبدأ العدالة الذي تهاوى تحت ضغط التسيس والتغوّل. وقد جاء تعيينه بطابع إصلاحي بعيدًا عن منطق المجاملة، واضعًا على عاتقه مهمة تصحيح التشريعات، وإعادة بناء المؤسسات العدلية، واستعادة الثقة في منظومة العدالة بوصفها صمام أمان للدولة.
في هذا الإطار، يبرز غياب المرأة عن التشكيل المعلن كإشارة مقلقة. فالدستور المعدل لعام 2025 ينصّ على ضمان تمثيل فاعل للمرأة في السلطة التنفيذية لا يقل عن الثلث، بما يعكس دورها السياسي والاجتماعي. إلا أن ما جرى حتى الآن لم يتجاوز إعادة تسمية محاسن يعقوب في وزارة الصناعة والتجارة، رغم التوقعات بتمثيل نسائي في ثلاث حقائب أخرى على الأقل. إن هذا الغياب يُقرأ كمؤشر على ضعف الإرادة السياسية في تنفيذ الالتزامات الدستورية.
وفي موازاة ذلك، غاب مشهد أداء القسم الجماعي، ذلك الطقس الدستوري البسيط لكنه بالغ الدلالة. يُمثّل هذا المشهد، في المخيال السياسي السوداني، لحظة التأسيس الفعلي، ولحظة إعلان الانتقال من مرحلة التشرذم إلى مشروع الدولة. وغيابه هنا قد يُفسر بغياب الرؤية الواضحة حول هوية الحكومة ومشروعها.
فبدلًا من أن يكون القسم الجماعي إعلانًا لبداية متماسكة، ظلّت التعيينات تتوالى بصورة مجتزأة، تثير تساؤلات أكثر مما تعزز الثقة. هذا الغياب، في نظر الرأي العام المحلي والشركاء الدوليين، يشير إلى هشاشة في البناء المؤسسي، ويمنح انطباعًا بأن الحكومة لا تزال في طور 'البحث عن ذاتها'.
في ظل هذه المعطيات، تتطلب اللحظة السياسية قرارات حاسمة لا تضع الحكومة في موقف دفاعي، بل تمنحها زمام المبادرة. وإلا فإن الخطاب المعارض سيسترد زخمه، ويحوّل كامل إدريس من 'قائد لمشروع التغيير' إلى شخصية تستهلكها متاهة الجدل اليومي.
إن القراءة الموضوعية تشير إلى أن حكومة الأمل، حتى الآن، لم تنجح في تثبيت معادلة تُمهّد لتحولها إلى حكومة مشروع وطني جامع. لا تزال الرؤية تتنازعها مقتضيات الترضية، ولا يزال الأداء خاضعًا لمعادلات التوازنات. ومع ذلك فإن الفرصة لم تُغلق بعد. فبعض الأسماء، وعلى رأسها وزير العدل، قد تُشكّل نقاط ارتكاز فعلية لإعادة ضبط المسار، بشرط أن تتحول هذه الأسماء إلى نواة لفريق عمل متماسك، لا مجرد أسماء في دفتر المرحلة.
ولن يتحقق ذلك دون تحوّل جذري في الطريقة التي تُدار بها شؤون الدولة. المطلوب الآن ليس مجرّد استكمال للأسماء، بل استكمال لمشروع وطني حقيقي يراعي التوازن الدستوري، ويُعيد بناء الثقة الشعبية، ويمنح المرأة كامل حقوقها، ويقدم نموذجًا مختلفًا في إدارة السلطة.
حكومة الأمل بحاجة إلى إرادة سياسية تحررها من الحسابات الصغيرة، ورؤية تُقدّم الكفاءة على الولاء، والاستحقاق على الترضيات. إلا إذا كانت هناك اعتبارات غير مُعلنة، تدور في الغرف المعتمة، فإنها ستتكشف لا محالة مع اكتمال التشكيل الوزاري.
إن التشكيل الوزاري المعلن لحكومة الأمل، بحسب قراءة 'وجه الحقيقة'، يعكس نمطًا من البراغماتية السياسية الحذرة، أكثر منه تعبيرًا عن إرادة استراتيجية لتحول بنيوي في الحكم. فغياب الرؤية الكلية، وتغليب منطق الترضيات على الفعل التأسيسي، يشير إلى إدارة تكتيكية للأزمة، لا إلى مقاربة شاملة لإعادة بناء الدولة.
ومع ذلك، فإن هذه البراغماتية، إذا تم استثمارها ضمن إطار مؤسسي محكوم بالقانون، ومرتكز على شمول التمثيل وفعالية الأداء، قد تكون قادرة على إرساء تحول مرحلي… حتى يصبح الحديث عن 'الأمل' ممكنًا لا شعارًا، بل كتحول مفاهيمي في تعريف الدولة ووظيفتها السياسية والاجتماعية. عندها فقط، ستنال الحكومة رضا السودانيين.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 13 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com