اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٠ حزيران ٢٠٢٥
إن ما يبدو اليوم ملامح تفكك قد يصبح غداً نموذجاً مستمراً لحكم ثلاثي قهري لا يُدار بمؤسسات بل بتفاهمات القوة والسلاح والانتماء الإثني والمناطقي
لم يعد المشهد السوداني الراهن قابلاً للفهم أو التفسير من داخل أطر الدولة الوطنية الحديثة، لا من حيث مفهوم السيادة ولا من حيث وحدة القرار السياسي أو احتكار أدوات العنف. فالسودان، الذي كان يوماً ساحة لتجاذبات سياسية مدنية وعسكرية، يتحوّل تدريجاً إلى ساحة مفتوحة لصراع هجين تتقاطع فيه مراكز قوى ثلاث: الجيش والميليشيات والقبائل. وإذا استمرّت الحرب الدائرة منذ أبريل (نيسان) 2023، فإن ما يبدو اليوم ملامح تفكك، قد يصبح غداً نموذجاً مستمراً لحكم ثلاثي قهري، لا يُدار بمؤسسات، بل بتفاهمات القوة والسلاح والانتماء الإثني والمناطقي.
الجيش، الذي شكل لعقود العمود الفقري للدولة السودانية ما بعد الاستعمار لم يعد فوق الصراع، بل أصبح جزءاً منه متكئاً على تحالفات قبلية وميليشيات محلية لحماية مناطقه المحدودة في الشرق والشمال. أما قوات 'الدعم السريع' فقد رسخت حضورها كقوة موازية ذات طابع عسكري– سياسي، تعتمد على اقتصاد الحرب والتمدد في مناطق دارفور وكردفان. وفي قلب هذا التوازن غير السليم، صعدت القبائل المسلحة من الهامش إلى الواجهة، ليس فقط كحاضنة اجتماعية، بل كسلطة ميدانية تتحكم في الموارد والممرات والمواقف.
هذا المثلث القهري، الذي يتنازع السودان اليوم، لا يمثل سلطة شرعية، بل شكلاً جديداً من أشكال 'الدولة المتنازعة'، التي تُدار بلا عقد اجتماعي، وتعيد تعريف السلطة كغنيمة تُنتزع لا كتكليف يُمنح. ومع كل يوم يمر يقترب السودان من زمن ما قبل الدولة.
سلطات متنافسة
على امتداد تاريخه السياسي، لم يعرف السودان الدولة المركزية بوصفها كياناً راسخاً ومستقراً، بل عاش في معظم فتراته كجغرافيا تتنازعها الكيانات القبلية والتحالفات العسكرية وأطماع الخارج. والوقائع التي تتكشف اليوم ليست إلا نسخة جديدة من مشاهد ماضية تتغير فيها الأسماء والأدوات، من دون أن يتغير جوهر المعادلة.
ما يشهده السودان اليوم ما بين تحالف وتنازع على السلطة بين الجيش والميليشيات والقبائل، ليس حدثاً استثنائياً، بل هو امتداد طبيعي لتقاليد سياسية واجتماعية ضاربة في القدم، كانت فيها الدولة المركزية، حين قامت، استثناء لا قاعدة. فالسودان، في بنيته العميقة، ظل تاريخياً أرض سلطات مجزأة ومراكز قوى متنافسة، يحكمه من يملك التحالفات القبلية والسلاح، لا من يحتكم إلى الدستور أو المؤسسات.
في حقبة ما قبل الغزو التركي- المصري عام 1821، كان السودان مقسماً بين ممالك وسلطنات مستقلة، سلطنة دارفور ومملكة الفونج (سنار) ومشيخات البجا، وكلها كانت تستند إلى شرعية محلية قبلية أو دينية، وتحكم وفق أعرافها الخاصة، وتتقاتل أحياناً على المراعي أو النفوذ أو التجارة. واليوم، تتجلى هذه الصورة القديمة بوضوح في سيطرة 'الدعم السريع' على دارفور وتحالفه مع فصائل رعاتها، وفي مطالب البجا بالحكم الذاتي للشرق، وفي تحركات كيانات مثل مجلس نظارات البجا التي باتت تتصرف كسلطة مستقلة عن المركز.
وفي أواخر القرن الـ19، عندما سقطت الخرطوم بيد الإمام محمد أحمد المهدي عام 1885، بدا أن السودان يتجه إلى وحدة إسلامية- مهدوية. لكن سرعان ما تآكل هذا المشروع من الداخل، وتحولت 'الدولة المهدية' إلى مناطق عسكرية متنافسة، إذ اصطدم الخليفة عبدالله التعايشي بتمردات من قبائل الكبابيش والبطاحين، وتململ من قبائل دارفور والزغاوة. وهي نماذج تذكّر اليوم بتصدعات تحالف الجيش مع بعض القبائل، كـ'الرزيقات' الذين انقسموا بين دعم الجيش و'الدعم السريع'، أو 'المسيرية' الذين يتأرجح ولاؤهم بين الطرفين.
وفي العصر الحديث، تشكلت دارفور، منذ عام 2003، كإقليم تسوده سلطة الميليشيات، بعدما ساندت الحكومة ميليشيات 'الجنجويد' ضد الحركات المسلحة من قبائل 'الفور' و'الزغاوة' و'المساليت'. وقد أدى ذلك إلى ظهور نمط 'الحكم بالوكالة' عبر القبائل والسلاح، وهو النمط نفسه الذي يتكرر الآن.
هشاشة بنيوية
على رغم ما يبدو من تماسك نسبي بين الجيش والميليشيات الموالية له في مواجهة قوات 'الدعم السريع'، إلا أن هذا التحالف يعاني من هشاشة بنيوية تنذر بتفكك محتوم. فالعلاقة بين الطرفين ليست قائمة على وحدة مشروع سياسي أو عقد وطني جامع، بل تقوم على منطق الضرورة الآنية والاحتماء المتبادل في وجه تهديد أكبر، ما يجعل منها شراكة متوترة بين طرفين متوجسين. وهكذا أعيد استدعاء ميليشيات ترتبط تاريخياً بالحركة الإسلامية، مثل 'كتائب البراء بن مالك' و'الشيخ مصعب' و'الغرباء'، إلى جانب وحدات الأمن الشعبي والاحتياطي المركزي (أبو طيرة)، التي عادت للعمل تحت مظلة الجيش، لكن بأجندات مستقلة غالباً ما تُدار من خارج المؤسسة العسكرية الرسمية.
في المقابل، تنظر هذه الكتائب إلى نفسها باعتبارها 'حاضنة شرعية' للدولة الإسلامية التي أطاح بها الحراك الشعبي في 2019. وهي لا تخفي طموحها في استعادة النفوذ السياسي، بل بدأت تتوسع في الخطاب التعبوي الموجه نحو فكرة 'التمكين الثاني'، وتُدار فعلياً بتوجيهات من قيادات بارزة مثل علي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، الذي يُنظر إليه باعتباره 'المرجعية السياسية العليا' لهذه التشكيلات.
هذا الواقع يقلق قيادة الجيش، التي تخشى من أن تتحول هذه القوى إلى 'مخلب داخلي' يهددها من الخلف. وقد لمح الفريق عبد الفتاح البرهان إلى هذا الخطر في خطابه بمدينة شندي في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بقوله 'لا عودة لحكم أعضاء النظام السابق'، وهي عبارة اعتبرها البعض محاولة لفرملة الاندفاع الإسلامي داخل المؤسسة، فيما رآها آخرون مجرد مناورة لكسب دعم الخارج.
وفي أوائل فبراير (شباط) الماضي بمدينة بورتسودان، قال البرهان خلال اختتام مشاورات القوى السياسية والمجتمعية، 'لا توجد فرصة ثانية للمؤتمر الوطني للعودة إلى الحكم على أشلاء السودانيين'. لكن عاد بعد أيام قليلة ليدعم خطاباً آخر في لقاء مع مقاتلي 'كتيبة البرق الخاطف'، وهي من تشكيلات الإسلاميين المقاتلة بجانب الجيش، حين أشار إلى أن 'كل من قاتل إلى جانبنا في الحرب ضد ‘الدعم السريع‘، سيكون شريكاً في أي مشروع سياسي مستقبلي، ولن نستثني أحداً'.
ازدواجية قبلية
أما القاعدة القبلية لهذا التحالف فهي أكثر تنوعاً واضطراباً، إذ أصبحت أكثر من مجرد حواضن اجتماعية، هي اليوم أطراف فاعلة في الحرب تتوزع بين الولاء للجيش أو الاستقلال الذاتي، مدفوعة بالمصالح الاقتصادية والحمائية. أكثر من 12 ميليشيا قبلية تقاتل إلى جانب الجيش، بعضها ذو صبغة دينية وأخرى مناطقية، وكلها تسهم في صناعة مشهد تتآكل فيه الدولة المركزية.
وفي قلب المشهد القبلي السوداني الذي تحول إلى أحد أعمدة المعادلة العسكرية والسياسية، تتقدم قبيلة 'الرزيقات' بوصفها إحدى أكبر القبائل وأكثرها انخراطاً في الصراع الدائر. الشيخ سعيد ماديبو هو الناظر العام المعترف به للقبيلة، لكن موقعه القيادي لم يجنبها الانقسام الداخلي العميق الذي يعكس تعقيد الولاءات داخل بنية القبيلة ذاتها. فقد أعلنت وفود من 'الرزيقات'، يتقدمها عيسى عليو ومحمد يوسف التلب، دعمها العلني للجيش السوداني، بينما أصدرت قيادات أخرى بيانات واضحة ترفض تمثيل القبيلة من قبل هذه الشخصيات وتعلن تأييدها لقوات 'الدعم السريع'. هذا الانقسام لم يكن مجرد تباين سياسي، بل امتد إلى ساحات القتال، حيث تكبدت 'الرزيقات' خسائر بشرية فادحة تُقدر بنحو 45 ألف مقاتل خلال المعارك الطاحنة في دارفور، ما أحدث حالة من إعادة النظر في جدوى التحالفات، وأعاد طرح سؤال الهوية والمصلحة داخل جسم القبيلة.
أما قبيلة المسيرية، فقد لعبت دوراً مزدوجاً في سياق الحرب، إذ انخرطت بعض فصائلها إلى جانب الجيش ضمن الميليشيات المساندة، بينما حافظت أخرى على علاقاتها السابقة مع 'الدعم السريع'، مما يجعلها نموذجاً للولاء المتحول وفق موازين القوى على الأرض.
إلى جانب ذلك، تبرز قبائل أخرى ذات ثقل عسكري واجتماعي، مثل 'البني هلبة' و'الهبانية' و'الفلاتة' و'النوبة'، والتي تباينت مواقفها بحسب الجغرافيا والمصلحة. ففي حين قاتلت بعض ميليشيات هذه القبائل إلى جانب الجيش، دخلت مجموعات منها في مفاوضات محلية مباشرة مع 'الدعم السريع'، سواء بدافع الحماية الذاتية أو بغرض تحصيل مكاسب سياسية واقتصادية في المناطق التي تسيطر عليها.
هذه الوقائع تُظهر أن البنية القبلية في السودان على رغم حضورها التاريخي والاجتماعي العميق، لا تتصرف ككتلة واحدة، بل تعيد تموضعها السياسي والعسكري وفق حسابات ضيقة تتعلق بالبقاء والمكاسب وتوازن الرهانات في لحظة انهيار المركز وتفكك الدولة.
سيناريو مرجح
تعكس هذه التناقضات الانقسام الداخلي في المؤسسة العسكرية نفسها تجاه الإسلاميين والميليشيات القبلية، وتعد مصدراً لنقاط ضعف في تحالفهم الحالي، وتنبئ بأن زلزالاً داخلياً قد يحدث بمجرد تغير موازين القوى أو انحسار ضرورة القتال المشترك. وفي المحصلة، فإن العلاقة بين هذا الثلاثي تشبه هدنة تكتيكية لا تحالفاً عضوياً. وهي هدنة محكومة بزوال الخطر المشترك أو بتغير موازين القوة، حيث لا شيء يمنع أن يتحول أحد الحليفين إلى خصم يسعى للاستفراد بالحكم، كما حدث تاريخياً في تجارب مشابهة.
النتائج المباشرة لهذا التكوين الهجين تنعكس في جملة من المؤشرات الخطيرة، أولها تفكك مؤسسات الدولة إلى هياكل محلية مسلحة تتنازع النفوذ، وثانيها تآكل احتكار الدولة للعنف المنظم، حيث تتقاسم بنادق متعددة التحكم في الأرض، وثالثها بروز ظاهرة سلطة القبيلة والميليشيات، التي تمارس الحكم فعلياً خارج أي نظام قانوني أو إداري.
يبرز سيناريو مرجح يمكن تسميته بـ'الفيدرالية القسرية الميدانية'، حيث يستقر المشهد موقتاً على شكل مناطق نفوذ محلية تتقاسمها القوى المسلحة، من دون اتفاق سياسي شامل. في هذا السياق، سيبقى 'الدعم السريع' قوة ميدانية واقعية تفرض سيطرتها في إقليم دارفور ومناطق غرب السودان، وتدير علاقاتها الإقليمية بصورة مستقلة، مع احتمالات التحول التدريجي إلى سلطة أمر واقع ذات طابع إداري–عسكري، من دون أن تمتلك شرعية الاعتراف الكامل أو الرغبة في العودة تحت مظلة مركزية.
وبذلك، تنزلق البلاد مباشرة إلى انهيار شامل، مع سلطات محلية تحكم بأمر الواقع، ويُرجح أن تستمر طويلاً ما لم تحدث صدمة داخلية أو تدخل خارجي يعيد ترتيب المعادلة الوطنية من جذورها.