اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في مثل هذا اليوم من عام 2023، كُتبت صفحة من نورٍ في سجلّ السودان،
يومٌ انقسم فيه التاريخ إلى ما قبل المسالمة وما بعدها.
لم تكن فيه الدبابات تهدر، ولا الطائرات تظلل السماء،
بل كانت القلوب وحدها هي السلاح، والعقيدة هي الزاد،
وكان الرجال، أولئك الذين خرجوا من معسكر سركاب،
يمشون بخطى الواثقين، كأنما يحملون الأرض على أكتافهم،
ويقولون للعالم
هنا السودان… لا يُغلب من استعان بالله.”
تحركت الكتائب صباح الحادي عشر من نوفمبر،
نحو مستشفي الأمل الوطني ام درمان ثم إلى حي العرب والمسالمة،
والعدو متحصن في العمارات العالية،
مدججٌ بالمسيرات والمدافع الحرارية،
لكن رجال السودان كانوا عُزلاً إلا من صدقهم،
وأغنيتهم التي يرددونها في قلوبهم
حسبنا الله ونعم الوكيل.”
تحت وابل القصف والنيران،
كانوا يفتحون الشوارع شبرًا شبرًا،
يقاتلون بلا دبابات، بلا إسنادٍ جوي،
لكن بإيمانٍ يزلزل الجبال.
وفي كل زاويةٍ من زوايا الحي،
كانت تُكتب سطور البطولة بالدم، لا بالحبر.
وفي قلب المعركة، سقط الطبيب د. عمار هاشم الخليفة،
ترك صيدليته في سركاب،
ليحمل سلاحه ويقف في الصفوف الأولى.
سقط شهيدًا، ورفاقه ينتزعونه من بين نيران العدو،
يحملونه كما يُحمل الوطن الجريح،
كأنهم يقولون له
“نم قرير العين يا عمار… فالوطن لن يُسلم رايته.”
لم يكن بين المقاتلين دبابات،
لكن كانت هناك قلوبٌ من فولاذ،
وصبرٌ يضاهي الجبال،
وإرادةٌ تقول للمستحيل: اقترب فأنا من أذلّك.
اشتد القتال في تقاطع حي العرب،
وتحول المكان إلى بركانٍ من النيران والصيحات،
لكنهم ثبتوا، صبروا، ثم زحفوا،
حتى انكسر التمرد وارتفعت راية السودان،
تُعلن فجر النصر في أمدرمان.
وحين سكنت المدافع،
كانت الأرض تفوح برائحة الشهداء،
وفي مدرسة محمد حسين،
اصطفّت الجثامين الطاهرة، مغطاة بعلم السودان.
اقترب أحد القادة، كشف وجوههم، وقال بصوتٍ متهدّج:
هؤلاء ليسوا أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يُرزقون.”
كان من بينهم أحمد كرم الله ومحمد حسن بن عوف،
مناضلان قدّما أرواحهما كما يُقدَّم المهر لعروسٍ منتظرة.
قال أحد رفاقهم وهو ينظر إلى السماء
حوريّتي الحسناءُ حُسناً يفوقُ خيالي،
أنا قد أجيءُ معفّراً ممزّقَ الأوصال،
رضوانُ يسألُ من أنا وزُمرةُ النزال،
فقولي عنّي منافحاً لا يرهَبُ النزال.
تلك الكلمات لم تكن شعرًا، بل كانت وعدًا،
أوفاه الرجال حين صعدوا نحو الجنة.
مع غروب شمس ذلك اليوم،
كانت المسالمة وحي العرب تنفض عن نفسها رماد الحرب،
وتستقبل فجرًا جديدًا،
فجرًا كُتب بدماء الشهداء،
وبأنفاس الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
لم تكن تلك معركةً فقط،
بل كانت قسمًا جماعيًا على بقاء السودان حرًّا،
وعهدًا جديدًا بين الوطن وأبنائه،
أن لا يُترك شبراً واحدًا إلا وتُروى أرضه بدماء من أحبوه.
المجد للشهداء… والعزة للسودان،
ولمن بقوا على العهد، قابضين على الزناد،
يحرسون الحلم الكبير أن يبقى السودان كما كان:
عصيًّا على الانكسار،
مرفوع الرأس مهما اشتد البلاء
من المسالمة إلى الفاشر… العبور مستمر
وهكذا…
تمضي الأيام، وتدور عجلة التاريخ،
لكن ذكرى ملحمة الصمود والعبور – ١١ نوفمبر ٢٠٢٣م
تظلّ شاهدًا خالدًا على أن السودان لا ينكسر، مهما تعاقبت عليه المحن.
مرت البلاد بعد تلك المعركة بأيامٍ ثقيلة،
تبدّلت فيها الجبهات، وتغيّرت فيها الوجوه،
لكن جوهر المعركة ظل واحدًا:
أن يبقى السودان حرًّا عزيزًا، لا يُداس له تراب، ولا تُهان له راية.
ها هي الحرب اليوم تنتقل إلى تخوم دارفور،
حيث سطر أهل الفاشر فصولًا جديدة من الثبات،
كما سطر رجال أمدرمان بالأمس فصول العبور.
السماء نفسها، والنية نفسها، والإيمان ذاته
الذي جعل رجال سركاب يعبرون نحو المسالمة،
هو الذي جعل أبناء الفاشر يقفون في وجه جحافل الغدر
بقلوبٍ لا تعرف التراجع، وبصدورٍ كتبت الحكاية من جديد.
وفي بابنوسة، هناك رجالٌ كأنهم من سلالة أولئك الأبطال،
يثبتون في وجه الريح، ويزرعون الأرض عزيمةً وإصرارًا،
يدافعون عن تراب السودان كما تُدافع الأم عن طفلها،
ويقولون للعدو كما قال أسلافهم بالأمس:
قسماً لن ننهزم، ما دام فينا نفسٌ يتردد.”
تتحرك اليوم الجيوش نحو دارفور،
تحمل رايات النصر ذاتها التي رفرفت في أمدرمان،
وتُعيد كتابة ملحمة العبور ولكن على أرضٍ أخرى،
فالميدان تغيّر، لكن الروح لم تتغير،
والقيادة اليوم – بعزمٍ وإيمانٍ لا يلين –
تمضي في طريق النصر، لا تلوي على شيءٍ سوى رايةٍ خضراء تُرفع فوق كل دارٍ في السودان.
ومن خلفها يقف الشعب السوداني العظيم،
شعبٌ ذاق المرّ، لكنه ما استكان،
شعبٌ عرف معنى الفقد، لكنه أبى الانكسار،
شعبٌ وقف خلف جيشه كما يقف الجسد خلف القلب،
يمنحه الحياة والإرادة، ويهتف من كل بيتٍ وقريةٍ ومدنية:
نحن معكم… حتى آخر رمق، وحتى آخر شبر.”
وسقوط الفاشر – لم يكن سقوطًا للأرض،
بل نداءً للعزائم أن تنهض من جديد،
فكل أرضٍ في السودان ولّادةٌ برجالها،
وما تسقط مدينةٌ إلا لتنهض عشرات المدن بعدها
تحمل رايتها وتكمل الطريق.
هكذا هو السودان…
قد تضعف أذرعه حينًا، لكن قلبه لا يموت،
وقد ينوء تحت المحنة، لكنه لا يرضى الدنية،
ولذلك سيبقى صوته في التاريخ عاليًا يقول:
من أمدرمان بدأ العبور،
وفي دارفور يُكتمل النصر.”
وما بين المسالمة والفاشر وبابنوسة،
تسير راية السودان من يدٍ إلى يد،
ومن شهيدٍ إلى مقاتلٍ إلى قائدٍ،
تقول للعالم:
إن هذا الوطن، الذي خاض معاركه بلا دبابات ولا عتاد،
إنما يحمل في صدره سلاحًا لا يُهزم:
الإيمان، والإخلاص، والنية التي لا تعرف سوى الله والوطن.
فليعلم كل من يترقب مصير هذه البلاد:
أن السودان لن يُهزم…
ما دام في سمائه دعاء الأمهات،
وفي أرضه خطى الرجال،
وفي ميادينه رايات الشهداء ترفرف كأنها شمسٌ لا تغيب
ومن المسالمة إلى الفاشر… العبور مستمر.
والنصر – بإذن الله – آتٍ، ولو بعد حين.


























