اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٣ تموز ٢٠٢٥
تقف هذه الحركة أمام منعطف حرج ودخلت منذ سقوط نظام 'الإنقاذ' في دوامة من التفكك والشتات
جاء طرح السيناتور الجمهوري تيد كروز مشروع قانون يصنف جماعة 'الإخوان المسلمين' منظمة إرهابية، ترجمة صريحة لتطور جوهري في مقاربة الولايات المتحدة لواحدة من أكثر حركات الإسلام السياسي إثارة للجدل في العالم. وقد ارتكز هذا التحرك على بنية قانونية تشريعية تسعى إلى تجاوز مركزية التنظيم وهلامية هيكله القيادي، عبر نهج تصاعدي من 'القاعدة إلى القمة'، يطاول الفروع النشطة المنتشرة في دول عدة، منها السودان.
هذا التحول المفاهيمي الذي حظي بدعم واسع داخل الكونغرس ومؤسسات الضغط النافذة، لا يعكس فقط تصاعد الهواجس الأمنية الأميركية بعد هجوم 'حماس' في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بل يندرج ضمن إعادة تموضع شاملة في السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي، ومراجعة لخطاب محاولة التمييز بين الجناحين الدعوي والعسكري الذي ظل عقوداً، يحمي الجماعة من التصنيف الكلي.
في هذا السياق، تقف جماعة 'الإخوان المسلمين' في السودان أمام منعطف حرج. فمنذ سقوط نظام 'الإنقاذ' في أعقاب انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، دخلت الجماعة في دوامة من التفكك والشتات، بين من آثر الانسحاب والتواري، ومن انتظم في عمليات إعادة التموضع الإقليمي. وقد انقسمت وجهاتهم بين لندن وماليزيا وتركيا، حيث توفرت لهم الحماية والاستثمار السياسي والإعلامي، ضمن مشروع أوسع للتنظيم العالمي لـ'الإخوان المسلمين' يسعى إلى إعادة هندسة التوازنات داخل العالم الإسلامي.
أما في الداخل السوداني، وفي ظل الحرب التي تعصف بالبلاد منذ أبريل (نيسان) 2023، فقد بدت الجماعة وكأنها تتحرك بتركيز سياسي وتنظيمي لإعادة خريطة الإسلام السياسي في السودان إلى فترة حكم عمر البشير التي امتدت ثلاثة عقود، مستفيدة من الانهيار المؤسسي والتشظي الأمني، وعبر واجهات وتحالفات متعددة تتسلل من خلالها إلى مراكز النفوذ. ومن هنا، فإن مشروع تصنيف 'الإخوان' تنظيماً إرهابياً يضع فرع السودان تحت مجهر دولي، بما يحمله من تداعيات قانونية وتجفيف مصادر التمويل، مما قد يحد من قدرتهم على إعادة إنتاج النظام ذاته بوجوه جديدة وشعارات مختلفة.
لم تكن جماعة 'الإخوان المسلمين' في السودان مجرد فرع من فروع التنظيم الدولي بقدر ما كانت مشروعاً محلياً، لبس عباءة الإسلام السياسي، وامتزج بتاريخ البلاد السياسي والاجتماعي منذ أربعينيات القرن الـ20. نشأت الحركة في بيئة مشحونة بالتجاذب بين الراديكالية اليسارية للحزب الشيوعي والمحافظة الدينية، لتجد في مشروع 'الإخوان' المصري تربة خصبة تتغذى منها فكرياً وتنظيمياً، خصوصاً في أوساط الطلاب السودانيين العائدين من القاهرة.
ومنذ لحظة التأسيس، تميزت الحركة ببراعتها في التكيف مع أنماط الحكم المختلفة، متخذة أشكالاً تنظيمية متعددة، من 'جبهة الدستور الإسلامي'، إلى 'الميثاق الإسلامي'، ثم 'الجبهة الإسلامية القومية'، وأخيراً 'المؤتمر الوطني'، الذي أمسك بمفاصل الدولة تحت حكم الإنقاذ. وكان عراب هذه الفترات حسن الترابي العقل المدبر لتحويل التنظيم من مشروع دعوي إلى منظومة سياسية كاملة، تجمع بين التعبئة الأيديولوجية والعمل المؤسسي، مستندة إلى خطاب أصولي.
على مر العقود، دخلت الحركة في صراعات داخلية حادة، أبرزها 'المفاصلة' عام 1999، والتي أطاحت الترابي وقسمت الجماعة إلى جناحين، أحدهما ممسك بالحكم عبر البشير، والآخر في المعارضة بقيادة الترابي ذاته. وبينما استفادت الحركة من قدرتها التعبوية في السيطرة على الشباب والطبقة الوسطى، أنشأت قوات شبه عسكرية مثل 'الدفاع الشعبي'، واستلهمت النموذج الإيراني في تسخير العقيدة لأغراض التعبئة والحرب.
في موازاة هذا الصعود الداخلي، اصطدمت الجماعة بمواقف دولية حادة، خصوصاً من الغرب. فبعد إيواء النظام الإسلامي زعيم 'القاعدة' أسامة بن لادن في التسعينيات، فرضت على السودان عقوبات أميركية شاملة، وصنف كدولة راعية للإرهاب. كما واجهت الجماعة تهديدات متكررة بالتجريم والتصنيف كتنظيم إرهابي، خصوصاً بعد انكشاف دورها في دعم الحركات الإرهابية وتصدير نموذجها إلى الخارج. وقد تزايدت هذه الضغوط مع تصاعد التوترات الجيوسياسية واندلاع النزاعات الإقليمية.
ومن خلال واجهات وتحالفات جديدة، وأكثر تمويهاً، فإن تسلسل تاريخ 'الإخوان' في السودان لا يقرأ كمجرد سرد زمني، بل كمخطط تراكمي لإعادة إنتاج السلطة باسم الدين، وسط استجابة دولية تراوح ما بين التجاهل والاحتواء والتصنيف الصريح.
انطلقت إرهاصات الدفع نحو تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية داخل أروقة الكونغرس الأميركي، في لحظة كانت تشهد فيها السياسة الخارجية للولايات المتحدة تبايناً عميقاً في مقاربة الإسلام السياسي. ففي 24 فبراير (شباط) 2016، وافقت اللجنة القضائية بمجلس النواب على مشروع قانون تصنيفهم منظمة إرهابية لعام 2015. وفي 13 أبريل 2016، اتخذت اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس النواب الأميركي خطوة لافتة باستدعاء مسؤولين تنفيذيين بارزين، من بينهم مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى آن باترسون، لاستجوابهم في شأن العلاقة بين 'الإخوان' والإرهاب. وفي ظل تصاعد نبرة التشكيك، عبر نواب نافذين عن استيائهم من استمرار الإدارة في تجنب تصنيف الجماعة على رغم 'الأدلة الدامغة'، التي تربط الجماعة بأعمال عنف وتنظيمات متطرفة. أكدت باترسون للجنة أن إدارة أوباما (الرئيس السابق باراك أوباما) لا تعد جماعة 'الإخوان المسلمين' منظمة إرهابية. وفي وقت تمسكت فيه باترسون بالموقف التقليدي للإدارة، معتبرة الجماعة كياناً سياسياً غير محظور على رغم بعض العناصر المتشددة في صفوفها، كان المشهد التشريعي يتغير تدريجاً.
انعكس هذا التحول الدولي على البنية التنظيمية للجماعة في السودان، فبحلول منتصف العقد الثاني من الألفية، كانت جماعة 'الإخوان' السودانية قد بدأت تشعر بثقل العزلة الدولية والتضييق غير المباشر الناتج من تصاعد الخطاب المعادي لـ'الإخوان' عالمياً. ومع صعود هذه الموجة في المؤسسات الغربية، بدأ الفرع السوداني يعيد ترتيب صفوفه، معتمداً خطاباً أكثر براغماتية وتكيفاً مع المزاج الدولي المتغير. إلا أن التصعيد التشريعي الأميركي شكل عامل ضغط إضافياً على النظام السوداني حينها، الذي كان يدير توازناً دقيقاً بين الإبقاء على أعضاء الحركة الإسلامية في واجهة النظام، وتواريهم وإدارتهم النظام من خلف ستار للتخفيف من كلفتهم السياسية أمام الخارج.
وقد تسارعت ملامح هذا التأثير لاحقاً، ليتجلى بصورة أكثر وضوحاً بعد إطاحة نظام عمر البشير عام 2019، حيث وجد عدد كبير من كوادر 'الإخوان' السودانيين أنفسهم أمام خيارات ضيقة، إما الانكفاء المحلي أو اللجوء إلى بيئات خارجية أخرى.
بعد إطاحة نظام البشير عام 2019، لجأ عدد كبير من كوادر 'الإخوان' السودانيين إلى أوروبا، حيث وجدوا في بيئة الشتات متنفساً جديداً لإعادة التموضع. وقد شكل هذا اللجوء رافداً إضافياً لنفوذهم في الفضاء الأوروبي، لا سيما مع امتلاكهم الخبرة التنظيمية والقدرة على تكييف خطابهم بما يتماشى مع مفاهيم الاندماج والهوية والجاليات المسلمة في الغرب.
وتكمن خطورة هذا الامتداد في قدرة الجماعة على استثمار قضايا الحرية الدينية وحقوق الأقليات لبناء نفوذ ناعم، يخدم أجندة أيديولوجية. وقد بات من الواضح أن هذه الجماعة لا تزال تراهن على تحريك الرمزية الدينية وتوجيهها سياسياً، مستفيدة من التحديات الديموغرافية التي تواجهها أوروبا، وساعية إلى إعادة تشكيل المنظومة القيمية والسياسية على نحو خفي وتراكمي.
وفي ظل الحرب، تجد الحركة الإسلامية نفسها في موقع يعيد إلى الأذهان مرحلة التمكين الأولى، حيث تحاول استغلال الانهيار المؤسسي والتفكك الوطني لإعادة خريطة الإسلام السياسي في السودان، تماماً كما فعلت عام 1989، ولكن هذه المرة من خلال واجهات وتحالفات جديدة، وأكثر تمويهاً. ومن بين أبرز التشكيلات التي ظهرت منذ اندلاع القتال، برزت 'كتيبة البراء بن مالك' بوصفها إحدى الأذرع العسكرية المرتبطة بالحركة الإسلامية، وهي كتيبة تتجاوز طبيعتها الأمنية إلى كونها أداة أيديولوجية تعبر عن إرث التنظيم في عسكرة الدعوة وتسييس الدين. ويتهم هذا التشكيل بلعب دور محوري في تأجيج الصراع، باعتباره فاعلاً يسعى لتوظيفها كفرصة استراتيجية لإعادة هندسة المشهد السياسي لمصلحة مشروع 'التمكين' القديم بحلة جديدة. ويتسق ذلك مع محاولات حثيثة لمنع أي عودة حقيقية إلى المسار المدني، خصوصاً بعد انقلاب قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان بفرضه إجراءات أكتوبر 2021، ثم اندلاع الحرب، مما أحدث فراغاً في بنية السلطة ملأه 'الإخوان' بالتسلل لاستعادة نفوذهم.
وتقرأ هذه التحركات كخطة مدروسة يفعل فيها 'الإخوان' شبكاتهم التنظيمية وخبرتهم الطويلة في اختراق مؤسسات الدولة، وتعبئة الأنصار، وإنتاج خطاب مواز يستثمر في الخوف والاضطراب، ويقدم 'النجاة' من الفوضى عبر إعادة إنتاج نموذجه في السلطة. وبهذا، تعود الجماعة إلى أدواتها الأولى، الميليشيات، والتحالفات الرمادية، والشعارات العقائدية، ولكن في سياق أشد هشاشة، وأكثر تعقيداً، يحول الحرب إلى مختبر مفتوح لمشاريع السلطة المستترة.
في ضوء التطورات الجارية، بعد دفع مشروع القانون الأميركي لتصنيف جماعة 'الإخوان المسلمين' منظمة إرهابية، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسة ترسم ملامح الاستراتيجية المقبلة لـ'الإخوان' في السودان، لا بوصفها ردود فعل عشوائية، بل كتحولات مدروسة من تنظيم خبر الانحناء للعواصف، وراكم خبرات طويلة في فن البقاء، والعودة من الظل إلى مركز الفعل السياسي.
السيناريو الأول: يفترض أن التصنيف الأميركي المحتمل، لن يضعف بالضرورة حضور 'الإخوان' في السودان. فقد حكموا 30 عاماً في ظل حصار اقتصادي، وعقوبات أميركية، وعزلة دبلوماسية خانقة، ومع ذلك بنوا شبكات تمويل موازية، وتحالفات إقليمية وظفوا من خلالها الاقتصاد غير الرسمي والعلاقات الأيديولوجية. من المرجح أن يتحصنوا مرة أخرى بالاقتصاد الرمادي، والمجتمع الأهلي، والتمويل غير الحكومي عبر واجهات خيرية وتجارية، تدار من دول لا تأبه كثيراً لتداعيات التصنيف، أو ترى فيه أداة للمساومة مع الغرب.
السيناريو الثاني: ينطوي على تقاطع لافت بين جماعة 'الإخوان المسلمين' في السودان و'الحرس الثوري الإيراني'، في ظل عودة العلاقات السياسية والأمنية بين الخرطوم وطهران، والتي تجلت بإلغاء التأشيرات بين البلدين، وتنامي التنسيق العسكري. وهو تقارب يتجاوز البعد الدبلوماسي إلى مشروع أعمق، يعيد إنتاج اصطفاف أيديولوجي عابر للمذاهب، يقوم على مناهضة الغرب والاحتفاظ بهياكل غير رسمية للنفوذ. وإذا ما تم فعلياً إدراج 'الإخوان' ضمن استراتيجية 'من القاعدة إلى القمة'، المشابهة لما استخدم ضد 'الحرس الثوري'، فإن هذه التقاطعات ستتحول إلى تحالفات ميدانية، تستثمر في الفراغ الأمني، وتخلق شبكة مقاومة مضادة للنفوذ الغربي، تنشط في مناطق النزاع، وتنتظم في الاقتصاد الحربي، وتستفيد من دعم 'فيلق القدس' في نقل الخبرات والموارد.
السيناريو الثالث: يتراجع فيه 'الإخوان' إلى الظل، ويعيشون حياة الانزواء السياسي والتنظيمي، لكنهم لا يغادرون المشهد، بل يعيدون التموضع في صمت. يختفون في مجتمعاتهم، ويزرعون خلايا نائمة، ويحتفظون بسجل طويل من الثأر الرمزي ضد من أسقطوهم. وفي هذا السيناريو، يتماهى 'الإخوان' مع الجماعات ما بعد الهزيمة، التي تتغذى على الذاكرة الجماعية، وتحول الانتكاسة إلى خزان تعبوي، بانتظار لحظة الانقضاض حين يشتد الانهيار، أو تتبدل موازين القوى.