في انتظار انهيار العالم النامي

كانت جائحة كورونا في أوروبا وأمريكا الشمالية وأوقيانوسيا وشرق آسيا تجربة مأساوية مؤلمة، مأساةٌ خلقت مجتمعات أكثر اكتئاباً وانقساماً، لكن نظراً لأن الغرب كان منشغلاً بمشاكله، فاتهم ملاحظة شبح أسوأ بكثير مرّ على الأجزاء الأكثر اكتظاظاً بالسكان والأسرع نمواً والأقل مرونة في العالم.

تسبب فيروس كورونا بأزمة عميقة في العالم النامي المأزوم أصلاً، والذي يضم قرابة نصف البشرية جمعاء. وسيكون لهذا تداعيات خطيرة على مستقبل الاقتصاد العالمي والنظام السياسي.

في البداية، كان الفيروس بمنزلة مرض البلدان الغنية، إذ بدأ في الصين الصناعية وانتشر في أماكن كالولايات المتحدة وإيطاليا والمملكة المتحدة. ولكن اليوم لا توجد أي من البلدان الثرية ضمن قائمة البلدان العشر الأكثر تضرراً من حيث معدل وفيات.

واشتناداً إلى موقع بلومبيرغ، إن الدول التي أمست تتعامل بمرونة كبيرة مع الفيروس وتحوراته هي جميعها من بين الدول الأغنى - الولايات المتحدة ونيوزيلندا وإسرائيل وفرنسا والمملكة المتحدة وإسبانيا، إلى جانب بعض دول شرق آسيا الثرية، من بينها الصين. في المقابل، عصفت الجائحة بأمريكا اللاتينية والمناطق النائية في أوروبا الشرقية، إذ تضررت بيرو الفقيرة بشدة، حيث سجلت معدل وفيات أعلى من أي بلد آخر بالضعف.

وقال الموقع إن الأرجنتين والفلبين والهند وماليزيا وإندونيسيا وكولومبيا وباكستان تقبع في أسفل القائمة، حيث جرى تطعيم 5% فقط من السكان وسطياً. وربما نشهد ثمار ما وصفه موقع ذا نيشن بأنه 'فجوة تطعيم هائلة بين الشمال والجنوب'.

اللقاح العنصري

بحلول حزيران/يونيو من هذا العام، حقنت الولايات المتحدة وبريطانيا نصف سكانهما، وحقن بقية الاتحاد الأوروبي ثلث سكانهم. في المقابل، طعمت الكونغو وإثيوبيا ونيجيريا السودان وفيتنام وزامبيا ما بين 0.1% و0.9% من سكانهم، ما يعني أن العالم يتجه نحو الفصل العنصري في مسألة اللقاحات.

في الواقع، نظراً للخوف الذي غرسه فيروس كورونا في الناس، قد تمسي البلدان النامية التي تنتشر فيها العدوى مناطق محظورة على الغربيين، وأماكنَ تتجنبها الشركات الغربية، باستثناء الحصول على المواد الخام، وهي أهداف معتادة للدول الغربية.

حتى قبل الجائحة، كان العديد من اقتصادات العالم النامي يواجه صعوبة في الوصول إلى أسواق الائتمان العالمية، ومن المرجح أن يزداد هذا الأمر سوءاً الآن. وسيؤدي الفصل العنصري في التطعيم إلى تفاقم المشاكل الموجودة مسبقاً. مثلاً، تبعاً لبيانات البنك الدولي لعام 2019، بلغت بطالة الشباب نحو 25% في تركيا والهند وإيران، وتجاوزت في جنوب إفريقيا 55%، وهذه المعدلات سترتفع.

علاوة على ذلك، منذ ظهور الجائحة، انخفض دخل البلدان النامية لأول مرة منذ 60 عاماً، وتتوقع الأمم المتحدة أن الركود الناجم عم الجائحة يمكن أن يغرق ما يصل إلى 420 مليون شخص في الفقر المدقع.

وكلما طالت مدة الجائحة، زاد الفصل بين البلدان ذات الدخل المرتفع والبلدان الفقيرة، فالخوف من العدوى له تأثير مخيف على المستثمرين، الذين يخشون زيارة البلدان المتضررة، إذ ثبت في بعض البلدان أن الانخفاض الهائل في السياحة، فضلاً عن تأثير عمليات الإغلاق، كان له أثر بالغ. توقع صندوق النقد الدولي أنه في منطقة البحر الكاريبي، حيث تمثل السياحة ما بين 50% و90% من الدخل والعمالة، فإن الإيرادات 'ستعود إلى مستويات ما قبل الأزمة بشكل تدريجي فقط خلال السنوات الثلاث المقبلة'. سيظهر هذا الانخفاض أيضاً في البلدان النامية الأكبر، مثل المكسيك وتركيا وتايلاند والفلبين - بالإضافة إلى مراكز السفر التقليدية، مثل إسبانيا وإيطاليا.

ثم هناك مسألة فقدان التحويلات - الأموال التي يرسلها العمال المهاجرون في الغرب إلى عائلاتهم. ومع توقف العديد من العمال المهاجرين عن العمل أو انقطاعهم عن وظائفهم أو عدم قدرتهم على الانتقال إلى البلدان الأكثر ثراء بحثاً عن عمل، فقدت اقتصادات الدول النامية مليارات الدولارات من الدخل، إّ تمثل التحويلات المرسلة إلى الوطن 10% أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لبلدان مثل برمودا ونيبال والصومال والفلبين وليسوتو والسلفادور وغواتيمالا وفلسطين، وهي بلدان عانى معظمها من مستويات كبيرة من العدوى ولم تحقق سوى نجاح محدود في كبح جماحها.

إن طمع الدول الغربية بالمواد الخام في العالم النامي سيستمر، وستظل غير مبالية بشعوبها. وقد يتلاشى الفيروس قريباً من ذاكرة الدول الغربية، لكن التفكك السياسي والاقتصادي المتزايد الناجم عن الاستجابة له يمكن أن يمثل تحدياً عالمياً هائلاً لسنوات قادمة.

أعاد الوباء تنظيم العالم ووسّع الفجوة، التي كانت تتضاءل في يوم من الأيام، بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة. وإن ظل العالم الغربي يتجاهل العالم النامي ولا يساعده باللقاحات والعلاجات، فسنرى فاجعة لم يشهد لها التاريخ، بل هي جريمة ارتكبها الفيروس وشاركه العالم الغربي بها.

ملاحظة: الٓاراء السياسية الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن موقف 'النهضة نيوز'