اخبار السودان
موقع كل يوم -نبض السودان
نشر بتاريخ: ١٨ كانون الأول ٢٠٢٥
أحدث البيان المصري الذي صدر بالتزامن مع زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان لمصر صدمة كبيرة على مستوى السياسة الإقليمية، حيث اعتبره الكثيرون بمثابة 'تغيير لقواعد الاشتباك' بين البلدين البيان لم يكن مجرد موقف عادي، بل حمل إشارات واضحة ومباشرة، يمكن تلخيصها في خمس نقاط رئيسية توضح الأبعاد الحقيقية لهذا التحرك بالنسبة للسودان.
أولى النقاط اللافتة في البيان هي الإشارة إلى رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هذه الإشارة ليست مجرد ذكر اسمي، بل تشكل رسالة قوية للعالم مفادها أن القاهرة لا تتحرك بشكل أحادي، بل ضمن سياق دولي ودعم من قوى كبرى هذا يوفر لمصر غطاء سياسي لأي خطوات محتملة، ويصعب على المجتمع الدولي معارضتها أو إدانتُها لاحقاً، إذا ما قررت اتخاذ إجراءات حاسمة.
وشملت النقطة الثانية التلويح بالحل العسكري القانوني، أخطر جزء في البيان كان ذكر “اتفاقية الدفاع المشترك” هذا المصطلح يحمل معنى قانونياً واضحاً: مصر تهيئ الأرضية لأي تدخل عسكري شرعي لحماية حلفائها في السودان.
الرسالة هنا واضحة لكل الأطراف: أي تحرك من الميليشيات أو داعميها يمكن أن يقابل برد فعل مباشر تحت مظلة اتفاقية معترف بها، وهذا لا يعد اعتداء، بل تفعيل لاتفاقية موجودة بالفعل، مما يرفع سقف التوتر بشكل ملموس.
أما الثالثة فنصت على رفض أي تقسيم للسودان، البيان المصري لم يترك أي مجال للشك حول موقف القاهرة من “الكيانات الموازية”، أي محاولة لإعلان حكومات موازية أو فرض تقسيم السودان إلى دولتين هي خط أحمر. مصر تعلن بوضوح أنها تريد سوداناً موحداً، بجيش واحد، وأن أي خطوة في اتجاه تقسيم البلاد ستقابل برد حاسم، هذا الموقف يضع حدًا لكل سيناريوهات التفكك السياسي التي قد تحاول بعض الأطراف فرضها.
أما الرابعة فكانت من نصيب الفاشر وتصوير الأحداث هناك على أنها 'مذابح' يشير إلى البعد الإنساني في البيان، مصر تستخدم هذا البعد لتمهيد أي تحرك محتمل على أساس حماية المدنيين. الرسالة هنا مزدوجة: أولا تحذير للميليشيات، وثانياً تهيئة الرأي العام الدولي لأي تدخل محتمل بحجة حماية المدنيين.
أهم نقطة على الإطلاق وهي الخامسة ، هي الربط المباشر بين أمن السودان وأمن مصر. أي تهديد يحدث في الخرطوم أو الفاشر يُعتبر تهديدًا مباشرًا للقاهرة، وهذا يلغي فكرة 'النأي بالنفس' ويضع الأحداث السودانية في خانة الاستراتيجية الوطنية المصرية، بمعنى آخر، أي تصعيد في السودان هو تصعيد مباشر في وجه المصالح المصرية، مما يرفع من احتمالات التدخل المباشر أو دعم قوي للجانب الحكومي في مواجهة الفوضى.
هذه النقاط الخمس توضح أن البيان المصري لم يكن مجرد موقف رسمي، بل رسالة استراتيجية واضحة المعالم، تحمل تهديداً ضمنياً وتحدد خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها وهو بلا شك من أخطر البيانات الصادرة عن مصر تجاه السودان في السنوات الأخيرة، لأنه يربط بين السياسة، القانون، والبعد الإنساني بطريقة تجعل من أي تحرك مستقبلي للأطراف السودانية تحدياً حقيقياً على الأرض.
في النهاية، لا يمكن قراءة هذا البيان المصري بمعزل عن التاريخ والجغرافيا والدم المشترك بين مصر والسودان، فالعلاقة بين البلدين لم تكن يومًا علاقة مصالح عابرة، بل علاقة مصير واحد تشكّل عبر النيل الذي يجري في عروق الشعبين، والأرض التي لم تعرف حدودًا فاصلة بين أهلها، والدم الذي امتزج في معارك التاريخ والدفاع عن الهوية، حين تتحدث القاهرة عن أمن السودان، فهي لا تتحدث عن جار بعيد، بل عن امتدادها الطبيعي وعمقها الاستراتيجي. وحين تحذر من الفوضى والتقسيم، فهي تدافع عن استقرار بيت واحد لا يحتمل الانقسام.
هذا البيان، بكل ما حمله من رسائل صارمة، يعكس حقيقة ثابتة لا تتغير: مصر والسودان ليسا دولتين متجاورتين فقط، بل وطنان يجمعهما نهر واحد، وأرض واحدة، ومصير لا يقبل المساومة.


























