اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٥ أب ٢٠٢٥
تحذيرات من تسوية تفرض من الخارج لا تلبي الطموحات الوطنية
كثيراً ما عاش السودانيون أمل وحلم الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي عقب إطاحة نظام عمر البشير في ديسمبر (كانون الأول) 2019 ودخول البلاد في مرحلة انتقالية تمهد للدولة المدنية الديمقراطية عقب توقيع الوثيقة الدستورية في العام نفسه. ومع تعثر الانتقال السياسي وضياع ملامح ومعالم الفترة الانتقالية دخلت البلاد في إحدى أصعب مراحلها وأكثرها تعقيداً في تاريخها المعاصر، وبدلاً من التحول المدني الديمقراطي انتهت به الأزمات السياسية المتلاحقة إلى حرب دامية بين الجيش السوداني وقوات 'الدعم السريع' في أبريل (نيسان) 2023، مما وضع الفترة الانتقالية وحلم التحول الديمقراطي في مهب عواصف الحرب والسياسة.
في السياق يقول المتخصص في مجال العلوم السياسية محمد البشير مكي، 'حددت مدة الفترة الانتقالية بـ39 شهراً تبدأ من تاريخ توقيع الوثيقة الدستورية، لكنها واجهت تحديات كبيرة أدت إلى عدم وصولها إلى نهاياتها المرسومة، وتشظَّت بعد أكثر من خمسة أعوام (4 فترات) لكل منها سياقها ومبرراتها السياسية والأمنية التي تقف خلفها.
يوضح مكي أنه في كل مرة كان يتم تصفير عداد الفترة الانتقالية والبداية من جديد لمدة 39 شهراً أخرى، حدث ذلك عقب التوقيع على اتفاق السلام بتعديل الوثيقة وتشكيل مجلسي السيادة والوزراء لاستيعاب القادمين الجدد، ثم جاء انقلاب البرهان في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 ليضع لها نهاية غير تلك التي كانت مأمولة، ثم منحها التعديل الأخير للوثيقة الدستورية عمراً آخر مماثل، ويجري الحديث الآن عن فترة انتقالية لاستكمال الانتقال عقب انتهاء الحرب وإتمام التسوية السياسية.
يتابع مكي 'على رغم أن الوثيقة الدستورية قد حددت أسس الانتقال وآلية تقاسم السلطة بين المكونين العسكري والمدني وإنشاء مجلس السيادة ومجلس الوزراء، فإن الخلاف ظل هو الطابع الرئيس في علاقات تلك المؤسسات، فضلاً عن الانقسامات داخل المكون العسكري نفسه، مما ألقى بظلاله القاتمة على عملية التحول الديمقراطي، حتى اندلعت الحرب الراهنة لتطمس الرؤية حول نهاية الفترة الانتقالية بصورة كلية تنذر بدخول البلاد في نفق مظلم طويل من عدم الاستقرار الأمني والسياسي'.
يشير الأكاديمي إلى أنه مع استمرار الحرب وتدمير بنى البلاد التحتية والانهيار الاقتصادي وتفاقم الأوضاع الإنسانية، يمضي السودان على طريق عدم الاستقرار السياسي والأمني، يصبح من الصعب تحديد أجل محدد لانتهاء الفترة الانتقالية وبدء التحول نحو الحكم المدني الديمقراطي.
على نحو متصل يقول متخصص في القانون الدستوري تحفظ على ذكر اسمه إن أي فترة انتقال يفترض فيها أن تكون قصيرة وتديرها حكومة تصريف أعمال مستقلة أو ممثلة لجميع القوى السياسية من دون إقصاء، على أن تكون مهام الانتقال محددة على سبيل الحصر بالتركيز على إعداد البلاد لانتخابات، وذلك بسن القوانين اللازمة وتكوين مفوضية انتخابات، وربما عمل إحصاء سكاني جديد، إضافة لمعالجة القضايا الملحة في مجال الخدمات.
أحياناً، بحسب المتخصص في القانون الدستوري، يتم إجراء محاكمات في شأن الفساد وانتهاك القانون لرموز النظام السابق بواسطة لجان تحقيق محايدة وقضاء عادل، وألا تتخذ أي قرارات مصيرية أو استراتيجية إلى حين انتخاب حكومة مفوضة انتخابياً.
يردف 'لم تكن الفترات الانتقالية على مدى تاريخ السودان تتعدى مدة العام الواحد، بخاصة بعد ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل (نيسان) 1985، غير أن الذي حدث في 2019 وبموجب الوثيقة الدستورية، هو أن قوى الحرية والتغيير مع المكون العسكري مددا الفترة لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام، ثم عدلت الوثيقة بانضمام شركاء سلام جوبا في 2020 ومددت إثر ذلك الفترة لتبدأ من تاريخ الاتفاق، ثم عدلت الوثيقة في فبراير (شباط) 2025 بعد إبعاد 'الدعم السريع' و'الحرية والتغيير'، لتبدأ من جديد 39 شهراً، تنتهي في 2028. ويستطرد 'كان من الواضح أن المكونين المدني (قوى ‘الحرية والتغيير‘) والعسكري (الجيش و‘الدعم السريع‘ آنذاك) لا يريدان تحولاً ديمقراطياً حقيقياً، ويخشى الشق المدني الانتخابات التي لن تفوز بها لتنهي حكم العسكر، بل حتى أطراف اتفاق جوبا يريدون فترة انتقالية طويلة تضمن لهم تمتعهم بالمواقع السيادية والتنفيذية الحالية المغرية، لثلاثة أعوام قادمة إضافة للعامين السابقين'.
يواصل الحديث 'ما يؤكد عدم الرغبة في التحول الديمقراطي هو الإهمال التام للتحضير للانتخابات خلال فترة الشراكة المدنية العسكرية وما بعدها، إذ لم يكن هناك حديث خلال الأعوام الستة التي أعقبت سقوط نظام البشير وحتى الآن، أي حديث عن قانون الانتخابات أو مفوضيتها أو مجلس الأحزاب أو الإحصاء السكاني، بل لم يجر تشكيل مجلس تشريعي انتقالي ولا مجلس القضاء العالي الذي يرشح رئيس القضاء ونوابه'.
ويرى المتخصص الدستوري أنه كان من المفترض إلغاء الوثيقة الدستورية وعمل دستور انتقالي وتقصير الفترة الانتقالية، لكن الأمور لم تسر في هذا الاتجاه، ثم جاءت حرب أبريل المستمرة لتمنح الحكام الحاليين ذريعة إضافية للتشبث بالسلطة، وتساعد في استمرار سلطة الأمر الواقع. كما أن خطوة تعيين رئيس وزراء بسلطات شكلية لن تغير من الوضع شيئاً، مع تركيز السلطة بيد رجل واحد.
من جانبه يعتبر باحث التاريخ السياسي المعاصر عبدالمجيد نورين أن قبول القوى السياسية بالشراكة مع المكون العسكري كان خطأ تاريخياً أفرز تجربة مشوهة غير مسبوقة في كل المراحل الانتقالية التي عاشها السودان من قبل.
لفت نورين إلى أن التصدعات السياسية وانعدام الثقة بين المكونين شكَّلا أول مهددات الفترة الانتقالية التي انتهت بتعطيلها وإطاحة نظام الشراكة الهش، إذ لم تكن الأحزاب مهيأة للانتقال عقب إطاحة نظام البشير الشمولي الأحادي، الذي تعمد طوال 30 عاماً تفتيت الأحزاب وإضعاف دورها.
وتابع 'كان للإقصاء السياسي الذي مارسته قوى ‘الحرية والتغيير‘ ضد بعض مكوناتها دور كبير في تفتتها وانشقاقها بظهور ‘الحرية والتغيير‘ (الكتلة الديمقراطية)، التي انحازت لصفها معظم حركات دارفور الموقعة على السلام، مما استثمره المكون العسكري في توفير الدعم والغطاء السياسي لانقلاب الـ25 من أكتوبر 2021، الذي عصف بالشراكة وأنهى الفترة الانتقالية الحقيقية (الأولى)'.
أسهم الخلل في الشراكة العسكرية المدنية، وفق الباحث، في بروز مواجهات الشريكين المكتومة إلى العلن، ولم يكن بيد الشق المدني سوى تحريك الشارع ضد شريكه العسكري، مما قفز بالخلاف إلى العداء الكامل الذي انتهى بانقلاب أكتوبر 2021.
يعتقد نورين أن الأمل في التحول الديمقراطي بات ضعيفاً بعد الانقلاب الذي أسهم بدوره في عسكرة الفترة الانتقالية وتحول إلى شراكة جديدة مع حركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا المنضوية معظمها تحت (الكتلة الديمقراطية) التي ساندت الانقلاب.
يرى الباحث في التاريخ السياسي أن منعطف هذه الشراكة الجديدة يشكل امتداداً للأخطار التي قد تقضي على آخر الآمال في فترة انتقالية تقود إلى تحول مدني ديمقراطي، حيث يسعى الطرفان إلى البقاء في السلطة وتطويل أمد حكمهما بعيداً من أي التزام بالتحول المدني الديمقراطي الذي سينهي سلطتهما (العسكريين وحركات سلام دارفور).
على الصعيد ذاته يرى المحلل السياسي عبدالمحسن الشريف أن العسكريين ومن ورائهم 'الحركة الإسلامية' يتخذون من الالتفاف الشعبي حول الجيش في الحرب الراهنة كنوع من التفويض لاستمرار حكم العسكريين، بالتالي القفز على انتفاضة ديسمبر وتجاوز شعاراتها ومطلوباتها في التحول الديمقراطي، ووضع القوى المدنية أمام خيار التفرغ لبنائها المؤسساتي الداخلي والاستعداد لانتخابات ينظمها الجيش والإسلاميون.
يعتبر الشريف أن ضعف القوى المدنية وتشتتها وعجزها عن تشكيل جبهة موحدة لقيادة المرحلة الانتقالية وغياب التوافق السياسي الحقيقي، والثقة المفقودة بينها والمؤسسة العسكرية من الجانب الآخر، أحد أهم العوامل التي افتقرت إليها المرحلة الانتقالية منذ البداية، لذلك فشلت كل من الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا للسلام، في ترسيخ أسس حكم مستقر نتيجة للصراع وتضارب المصالح.
يرى المحلل أن الفترة الانتقالية في السودان تحولت بسبب التقاطعات السياسية والعسكرية، من كونها فرصة لبناء دولة ديمقراطية مدنية إلى مشهد أمني فوضوي ونزاع دموي وكارثة إنسانية، مما يهدد بانهيار وتفكك البلاد ودفعها إلى مستقبل مجهول، وينذر بتدخلات وضغوط خارجية ربما تفرض تسوية سياسية لا تلبي الطموحات الوطنية وتفتقر كذلك إلى الشرعية الشعبية.
وكان السودان دخل في مرحلة انتقالية لمدة 39 شهراً عقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، واتفق المكونان العسكري والمدني على إقامة شراكة في الحكم، بموجب وثيقة دستورية جرى توقيعها في الـ17 من أغسطس (آب) 2019، على أمل الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، لكن تعثر هذا الحلم بسبب الصراعات السياسية بين المكونات العسكرية والمدنية.
نصت الوثيقة على تشكيل ثلاثة مجالس للحكم، مجلسي السيادة والوزراء إلى جانب المجلس التشريعي، غير أن الخلافات السياسية حالت دون تكوين الأخير.
وفي أكتوبر 2021 تم تمديد عمر الفترة الانتقالية بعد توقيع اتفاق السلام في جوبا مطلع أكتوبر 2020، ثم تمديد آخر بموجب التعديل الذي طاول الوثيقة الدستورية في 2024، وجرى بموجبه تمديد الفترة الانتقالية مجدداً حتى 2028، وهكذا تناسلت الفترة الانتقالية الأساس وتحولت إلى فترات عدة، بينما ينتظر أن تبدأ فترة أخرى في سياق ترتيبات التسوية السياسية لمرحلة ما بعد نهاية الحرب.
وسبق أن مر السودان بمرحلتين انتقاليتين بعد انتفاضتين شعبيتين أطاحتا نظامين عسكريين في عامي 1985 و1964، انتهت كلتاهما بانتخابات عامة وبرلمان منتخب وحكومة تعددية.
ومنذ ميلاد دولة السودان المستقلة عام 1956 عاشت البلاد في دوامة من الانقلابات العسكرية، حكم خلالها العسكريون البلاد أكثر من 53 عاماً، مقابل 12 عاماً فقط للحكم المدني الديمقراطي البرلماني التعددي.