اخبار المغرب
موقع كل يوم -العمق المغربي
نشر بتاريخ: ٢٠ أيلول ٢٠٢٥
سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي
الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.
في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة 'العمق'، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.
بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.
ـــــــــــــ
الحلقة السابعة: يوم التروية.. أول أيام الحج حيث تنتقل القلوب والأبدان من مكة إلى منى
1- الحج عرفة:
9 ذي الحجة هو يوم عرفة، يوم الحج الأكبر، وهو ثاني أيام الحج بعد يوم التروية في 8 ذي الحجة.
– منطقة عرفة:
الغالبية العظمى من المسلمين يعتقدون أن جبل الرحمة هو مشعر عرفة، بينما المشعر يمتد على مساحة تبلغ حوالي 33 كيلومترا مربعا أو 3300 هكتارا، وحدوده معروفة بلوحات مكتوب عليها حين الدخول إليه 'بداية عرفات' وحين الخروج منه 'نهاية عرفات'. وكما قال عليه الصلاة والسلام: 'نَحَرْتُ هاهُنا، وَمِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ، فانْحَرُوا في رِحالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هاهُنا، وَعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هاهُنا، وَجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ' (رواه مسلم).
وعرفات منطقة مستوية محاطة بسلسلة جبلية، ويوجد في شمالها جبل الرحمة المعروف بشاخص إسمنتي في قمته.
وتبعد عرفات عن الحرم المكي بحوالي 23 كم، وعن منى بـ10 كم، وعن مزدلفة بـ6 كم.
– رمزية عرفة:
عرفة أو عرفات، من التعارف والتعرف، وحسب أشهر الروايات فإن سيدنا آدم عليه السلام وأمنا حواء عندما أهبطا من الجنة التقيا فيه فعرفها وعرفته.
والوقوف بعرفة بلباس الإحرام، في وقت واحد ومكان واحد، يعني تجمع الأبناء عند التقاء الوالدين، وهذا الفعل قد يعني صلة الرحم مع الوالدين. وقد يعني ولادة جديدة وبداية صفحة جديدة. وقد يعني التعارف بين البشر. إلى غيرها من الدروس والعبر التي يمكن أن نستنبطها من هذا الحدث العظيم.
– فضل عرفة:
سمي يوم عرفة بالحج الأكبر، لأن الوقوف به هو الركن الثاني من أركان الحج، ومن لم يقف في عرفات، أو أخل بشروط الوقوف فيه، من شروط زمانية ومكانية، فقد ضاع حجه، لقول رسول الله ﷺ: ' الحجُّ عرفةُ، فمن أدرك عرفةَ فقد أدرك الحجَّ' (أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي).
ومن أفضال يوم عرفة، أنه فيه نزلت الآية الكريمة: 'الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا' (المائدة:3).
كما أنه أفضل يوم من أيام السنة، لقوله ﷺ: 'ما مِن أيّامٍ أفضَلُ عِندَ اللهِ مِن أيّامِ عَشرِ ذي الحِجَّةِ، وما مِن يَومٍ أفضَلُ عِندَ اللهِ مِن يَومِ عَرَفةَ، يَنزِلُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السَّماءِ، فيَقولُ: انظُروا إلى عِبادي شُعثًا غُبرًا ضاحين جاؤوا مِن كُلِّ فجٍّ عَميقٍ يَرجونَ رَحمَتي ولَم يَرَوا عَذابي، فلَم يُرَ يَومًا أكثَرَ عُتَقاءَ مِنَ النّارِ مِن يَومِ عَرَفةَ' (أخرجه أبو يعلى وأبو عوانة وابن حبان).
– أعمال يوم عرفة:
الوقوف بعرفة ليس المراد به هو الوقوف على القدمين، وإنما الحضور في منطقة عرفات، من الزوال إلى المغرب، ومن الأفضل الاستمرار في الوقوف هنيهة بعد المغرب مع الطمأنينة حتى يتحقق الركن، لذلك يستحسن مغادرة عرفات بعد ربع ساعة من الغروب.
وأفضل الأعمال في هذا اليوم الدعاء والذكر والتلبية، فهذه هي العبادة المطلوبة في هذا اليوم، لذلك كان الجمع بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم وتقصير لكي يتفرغ الحاج إلى هذه العبادة.
والدعاء في هذا المقام أمره عظيم لقوله ﷺ: 'خَيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ عَرَفةَ، وخَيرُ ما قُلتُ أنا والنَّبيُّونَ مِن قَبلي: لا إلهَ إلّا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ' (أخرجه أحمد وبكر بن بكار والمحاملي وأبو نعيم). ومن الأفضل الابتهال عشية عرفة، بمد اليدين إلى الأعلى والدعاء في اتجاه الغروب، لأن الكعبة أو القبلة في عرفات تكون في اتجاه الغروب.
أما الذكر والصلاة على النبي والتلبية فينبغي أن تكون بلا حدود. ومن الأفضل صحيا المكوث في الخيمة إلى ما بعد العصر.
2- التعليمات الخاصة بالوقوف بعرفة هذا العام:
في هذا العام، ولتفادي وقوع الوفيات جراء الحرارة المرتفعة وضربات الشمس، أصدرت السلطات السعودية تعليمات لجميع بعثات الحج وطالبت بضرورة الالتزام بها، حيث أوصت وزارة الحج والعمرة ب:
' – البقاء داخل المخيمات من الساعة 10 صباحًا حتى 4 عصرًا
– عدم الخروج إلى جبل الرحمة أو مسجد نمرة خلال ذروة الشمس
– استخدام وسائل النقل الرسمية فقط بين المشاعر
– اتباع الجداول المعتمدة للتفويج لتجنب التكدسات'.
وهكذا أخبرتنا البعثة المغربية بأن الوقوف بعرفة سيكون في الخيام وعممت علينا برنامجا مفصلا لتنظيم المشاعر في كل من عرفات ومزدلفة ومنى (انظر صورة البرنامج). حيث تقرر الوقوف داخل الخيام وعدم مغادرتها، وركوب الحافلات بعد العصر والمكوث فيها إلى ما بعد الغروب، وذلك بسبب الحرارة المفرطة التي ستتجاوز ال50 درجة مائوية (حسب ما كتب في البرنامج).
وحين بحثت عن حالة الطقس في هاتفي، اكتشفت أن درجة الحرارة في يوم عرفة ستصل إلى 42 درجة مائوية وهي أقل مما سيكون عليه الحال في الأيام الموالية حيث ستصل درجة الحرارة إلى 44 درجة مائوية.
3- ظروف وقوفنا بعرفات:
كما ذكرت سابقا تم مبيت الحجاج المغاربة ليلة 9 ذي الحجة في عرفات بدل منى، ولما كان صباح يوم عرفة اتصلت بي زوجتي وطلبت مني أن نذهب لجبل الرحمة القريب من مخيم الحجاج المغاربة، وقالت لي بأنها لا تتصور حجا بدون الوقوف عند جبل الرحمة. وفي الحقيقة حتى أنا كان لي نفس الشعور، فذهبنا معا إلى جبل الرحمة ولم نصعد إلى قمته لأنه سبق لنا أن صعدنا إليها في عمرتنا قبل شهور، لبينا ودعونا وذكرنا الله، ثم عدنا إلى المخيم في حدود ال10 صباحا التزاما ببرنامج البعثة. وسبحان الله أكرمنا الله بالشعور بالخشوع وبالنفحات الروحية في هذا المكان، الشيء الذي افتقدناه طيلة اليوم تقريبا، ربما للالتصاق صورة جبل الرحمة بالوقوف بعرفة في ذاكرتنا كما هو الاعتقاد السائد عند غالبية المسلمين، أو لاستحضار مكان وقوف الرسول ﷺ على ناقته أسفل الجبل، الله أعلم.
داخل الخيام، استمرت تلبية الحجاج المغاربة إلى الزوال، وصلينا الظهر والعصر جمعا وقصرا بآذان واحد وإقامتين. وخلال اليوم استمعنا لموعظتين مؤثرتين من شيخين جزاهما الله خيرا.
وقبيل المغرب تجمعنا في مصلى داخل المخيم في انتظار إشارة المنظمين للذهاب إلى مواقف الحافلات، فانتهزناها فرصة لاستقبال القبلة والتضرع إلى الله بالدعاء، نسأل الله الاستجابة والقبول. ثم بعد الغروب بقليل نودي علينا للتوجه إلى مواقف الحافلات للذهاب إلى مزدلفة.
4- الذهاب إلى مزدلفة بالحافلة:
الأعمال المطلوبة في مزدلفة هي: صلاة المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وتناول الطعام، والمبيت فيها، والتقاط الحصيات السبع التي سترمى يوم النحر، والوقوف بالمشعر الحرام (مسجد) من صلاة الفجر إلى الإسفار قبل الشروق امتثالا لقوله تعالى: 'فإذا أفضتم من عرفات فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ* وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ' (البقرة الآية 198).
ولقد رخص الرسول ﷺ للضعفاء والنساء بعدم المبيت والذهاب إلى منى في الليل قبل الفجر.
وبما أنني لا أقوى على المشي طويلا بسبب مرض ركبتاي، كنت قبل الذهاب إلى الحج أدعو الله تعالى أن يكتب لي التنقل بالحافلة إلى آخر مزدلفة عند حدود منى. ولقد استجاب الله لدعائي، حيث عندما وصلت الحافلة إلى مزدلفة أخبرنا السائق بأنه لن ينتظر من سينزل في مزدلفة وأنه سيكمل الطريق، وحين تفحصت نظام تحديد المواقع (جي بي إس) في هاتفي، وجدت أن الحافلة وصلت إلى حدود منى، ففرحت كثيرا وأخبرت رفقائي بذلك.
يسر الله لنا النزول إلى مزدلفة، صلينا المغرب والعشاء جمع تأخير وتقصير، وتناولنا بعض الطعام، وجددنا الوضوء، ثم انطلقنا راجلين في اتجاه مخيمنا في منى.
5- الذهاب إلى منى مشيا على الأقدام:
لم تكن لنا مشكلة في الذهاب إلى مخيمنا في منى على الأقدام، حيث استعنا بنظام تحديد المواقع في هواتفنا، واستغرقت الرحلة حوالي 45 دقيقة، ولولا ثقل الأمتعة التي كنا نحملها على ظهورنا ولولا التعب والإرهاق لكانت المدة أقل.
وصلنا إلى مخيمنا في حدود ال2 و40 دقيقة صباحا، نمنا ولم نستيقظ من شدة التعب إلا في ال5 و20 دقيقة أي بعد طلوع الشمس.
ـــــــــــ
* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية
