هل يطل تنظيم "القاعدة" برأسه من جديد في ليبيا؟

'فقدان القاعدة الأميركية بالنيجر أسهم في نشاط الجماعات الإرهابية بمنطقة الساحل والغرب الأفريقي'

فيما تواصل جماعة 'نصرة الإسلام والمسلمين'، التابعة لتنظيم 'القاعدة'، تشديد الخناق على العاصمة المالية باماكو غرب أفريقيا، سارعت دول غربية إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من هذا البلد الذي يشترك في حدود جغرافية مع دول أفريقية عدة، على غرار موريتانيا والسنغال وغينيا وكوت ديفوار وبوركينا فاسو والنيجر والجزائر، التي تقتسم بدورها حدوداً ترابية مع ليبيا المنقسمة على نفسها سياسياً وأمنياً منذ سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي في عام 2011.

سقوط القذافي كانت استغلته التنظيمات الإرهابية للتوغل في هذا البلد الغني بالثروات المنجمية والمائية، إذ اختار تنظيم 'داعش' سرت الساحلية التي تتوسط الشرق والغرب الليبي كإمارة له، قبل أن تقضي عليه قوات الغرب الليبي عن طريق عملية 'البنيان المرصوص' العسكرية أواخر عام 2016، في حين تمكنت قوات المشير خليفة حفتر (شرق) من تطهير بنغازي من سيطرة التنظيمات الإرهابية منتصف عام 2017، لتتجه بعد ذلك إلى درنة والجنوب الليبي الذي كانت تتخذ منه عناصر تابعة لتنظيمي 'داعش' و'القاعدة' مقراً لأنشطتها، وجرى القضاء عليها هي الأخرى بجهود ليبية بمؤازرة سلاح الجو الأميركي في عام 2019 بمنطقة أوباري جنوب غربي ليبيا.

شبح تنظيم 'القاعدة' عاد مجدداً لليبيا عام 2020، عندما رصدت القوات الخاصة التابعة للجيش الوطني الليبي (شرق) تحركات لمجموعة تابعة للتنظيم تنشط في مجال نقل السلاح من ليبيا إلى مالي.

وفي أغسطس (آب) من العام الحالي، تمكن جهاز الاستخبارات الليبية من تفكيك ثلاث خلايا تابعة لتنظيم 'داعش' جنوب البلاد، وقد نقلت وكالة الأنباء الرسمية الليبية، عن مصدر رفيع في الاستخبارات الليبية، أن 'تقريراً مقدماً لمجلس الأمن كشف عن أن الخلية الأولى كانت تجند العناصر وتسهل نقلهم من شمال أفريقيا إلى الصومال ومنطقة الساحل الأفريقي، وتقدم لهم الدعم اللوجستي من جوزات سفر وإقامة'. وأضافت الوكالة في تقريرها أن الخلية الثانية متهمة بغسل الأموال من خلال شركات مموهة لمساعدة المقاتلين وعائلاتهم على الهرب من مخيم في سوريا إلى ليبيا، في حين كانت الخلية الثالثة مسؤولة عن تحويل الأموال إلى تنظيم 'داعش' باستخدام عملات مشفرة. وبحسب وكالة الأنباء الليبية، فإن الاستخبارات الليبية 'ضبطت بحوزة تلك الخلايا كميات من الأسلحة والمتفجرات، إضافة إلى أجهزة اتصال مشفرة ووثائق تثبت تلقيها دعماً لوجستياً من الخارج'، وأكدت أن 'أحد أفراد الخلية يعرف باسمه الحركي (QDe.115)، وهو مدرج على قائمة العقوبات الدولية كقيادي في تنظيم ’القاعدة‘، إذ اعتقل خلال العملية الأمنية الأخيرة إلى جانب عناصر أخرى كانت تتلقى تدريبات في مناطق نائية جنوب ليبيا'.

تطورات يراها المدير السابق لإدارة الإرهاب والاستخبارات السودانية اللواء عيسى أبكر أنها تدعم عودة تنظيم 'القاعدة' لنشاطه مجدداً في ليبيا، عبر منفذه الحدودي الجنوبي المفتوح على أكثر من بلد أفريقي له صلة جغرافية بمالي الذي يسيطر 'القاعدة' على عاصمته باماكو. وقال إن ليبيا تؤثر وتتأثر بما يحدث في دول الساحل والغرب الأفريقي، مؤكداً أن العملية الأخيرة للاستخبارات الليبية التي أطاحت بعناصر تابعة لـ'داعش' و'القاعدة' ينشطون جنوب ليبيا، ولهم صلة بدولة الصومال، خير دليل على أن تنظيم 'القاعدة' لم ينته في ليبيا بل خفت صوته فحسب، بينما تواصل خلاياه النائمة نشاطها في هذا البلد الغني بالثروات النفطية والمنجمية التي تمثل مصدر تمويل جيد لعمليات التنظيمات الإرهابية.

وأكد اللواء أبكر في حديث أن الوقت أصبح مناسباً جداً ليطل تنظيم 'القاعدة' برأسه من جديد في ليبيا، مستغلاً في ذلك حالة التفلت الأمني والانقسامات السياسية التي أضعفت الدولة الليبية أمام مخططات التنظيمات الإرهابية التي يبدو أنها بصدد نقل عدد من عناصرها من الساحل الأفريقي نحو ليبيا للتخطيط لهجمات جديدة. وقال إن 'خلايا نائمة تابعة لتنظيمي ’داعش‘ و’القاعدة‘ تمكنت من التغلغل في مناطق ليبية عدة عن طريق الانضمام لبعض الميليشيات المسلحة، وأيضاً عبر الاندساس وسط موجات المهاجرين غير النظاميين للتقرب من المجتمع الليبي،  غير أنهم مكلفون بمهمات محددة في القارتين الأفريقية والأوروبية'، وأضاف المدير السابق لإدارة الارهاب والاستخبارات السودانية أن كثرة الثغرات الأمنية في ليبيا بسبب صراع الحكومات سيؤثر تأثيراً مباشراً في الوضع الأمني، ما قد يستغله تنظيم 'القاعدة' في ليبيا، بخاصة أن مجموعة أفراد 'القاعدة' هم عناصر متعلمة يدرسون الجغرافيا والتاريخ دراسة صحيحة جداً، ويبحثون وفقها عن الثغرات الأمنية والسياسية للاستفادة منها في عملياتهم.

وأشار إلى أنه بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، استفادت 'القاعدة' من الهشاشة الأمنية في ليبيا، واختارت منطقة العوينات الحدودية الغنية بالموارد النفطية والمنجمية مكاناً لتمركزها، لكن الضربة الأميركية الموجة لهم عام 2018 في منطقة بني الوليد وعام 2019 في منطقة أوباري أضعفتهم،  لكنهم عادوا للنشاط من جديد، ولعل إطاحة الاستخبارات الليبية في أغسطس (آب) من العام الحالي بخلية إرهابية تنشط بين ليبيا والصومال بالساحل الأفريقي، وكشف الجيش الليبي بالمنطقة الشرقية عام 2020  أمر مجموعة إرهابية تنقل أسلحة  بين ليبيا ومالي غرب أفريقيا، لهو خير دليل على استغلال 'داعش' و'القاعدة' الفوضى الأمنية والسياسية الليبية للبروز مجدداً.

من جهته، قال الباحث المصري في الأمن الإقليمي والإرهاب أحمد سلطان إن هناك اتصالاً بين ليبيا والساحل الأفريقي، وكثيراً ما حدثت انتقالات متطرفة ما بين المنطقتين، إذ أسهم سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي في عام 2011 بظهور نشاط إرهابي غير مسبوق في هذه المنطقة عززه الفراغ الأمني وانتشار السلاح. وخلال أعوام، نجحت هذه التنظيمات في تأسيس مكانة قوية لها واستطاعت أن تحقق عدداً من الأهداف فرضت عبرها نفسها كأمر واقع على الساحة الأفريقية بصورة خاصة. وبيّن سلطان أن  التنظيمات المرتبطة بـ'القاعدة' أو المحسوبة عليها في دول المغرب العربي وفي منطقة الساحل والغرب الأفريقي لم تختف، بل كانت تنشط في الخفاء، ولكن ربما الحصار المفروض على العاصمة المالية باماكو خلال الفترة الماضية دفع بها إلى الواجهة، عن طريق جماعة 'نصرة الإسلام والمسلمين' التي تنتمي إلى تنظيم 'القاعدة' التي تنشط في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهو أمر يحفز النشاط الإرهابي في منطقة الساحل والغرب الأفريقي، لكن تأثيره في مناطق الجنوب الليبي سيبقى محدوداً، لأن استراتيجية جماعة 'نصرة الإسلام والمسلمين' في بعض الأحيان تكون متعارضة في ما بينها بسبب كثرة الفاعلين فيها. ورأى أن هذه الجماعات المكونة لـ'نصرة الإسلام والمسلمين' لديها اهتمامات جغرافية أخرى خارج ليبيا، فحتى طموحاتها التوسعية تشمل وساحل العاج، وفكرة التوسع ناحية الجنوب الليبي لا يبدو أنها مطروحة في الفترة الحالية، بخاصة وأن ليبيا لم تعد أرضاً مناسبة لنشاط هذه التنظيمات التي سبق واستغلت اندلاع الانتفاضة الليبية لتنشط من جديد. لكن الواقع أثبت أن الساحة الليبية ليست مناسبة، لهم وأنها مجرد ساحة استنزاف لجهودهم، وكثيراً ما قتل أشهر قادتها هناك، ومن بينهم القيادي بتنظيم 'القاعدة' المختار بن المختار.

وحول إمكان إضعاف وجود 'القاعدة' في ليبيا بسبب انتشار القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا 'أفريكوم' بليبيا، أشار الباحث المتخصص في الأمن القومي والإرهاب إلى أن نشاط 'أفريكوم' المكثف في ليبيا ليس العامل الفارق في عودة هذه الجماعات الإرهابية من عدمه، والحقيقة أن استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية المكثفة في القارة الأفريقية عليها كثير من الملاحظات، فضلاً على نتيجة الظروف السياسية التي أدت إلى خروج القوات الأميركية من النيجر، مشدداً على أن قاعدة النيجر كانت مهمة للجانب الأميركي لمراقبة نشاط الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والغرب الأفريقي، وهي نقطة استغلتها التنظيمات الإرهابية للعودة لبوابة الساحل والغرب الأفريقي. ونوّه سلطان إلى أن نشاط 'أفريكوم' في دولة ما ليس عاملاً حاسماً لعدم عودة التنظيمات المتطرفة مثل 'القاعدة' لليبيا، بل هناك عوامل تتعلق بالجغرافيا وأخرى ترتبط بطبيعة العناصر المنخرطة في هذه التنظيمات والأهداف المرحلية والاستراتيجية لهذه الجماعات، لافتاً إلى أن كل جهد لمكافحة الإرهاب يعرقل بدرجة أو بأخرى عودة التنظيمات. ولفت إلى أن مسألة عودة 'القاعدة' لليبيا غير متوقعة لأن الحاضنة الشعبية في حد ذاتها في المرحلة الحالية غير موجودة، فالمكون القبلي على غرار 'التبو' لن يقبل بذلك، إضافة إلى حرفية القتال التي اكتسبها كل من قوات الجيش الليبي بالمنطقة الشرقية والقوات الأمنية في الغرب الليبي ضد هذه التنظيمات الإرهابية، ولعل دحر تنظيم 'داعش' من سرت وبنغازي خير دليل على ذلك.

وأكد المستشار العسكري السابق للمجلس الرئاسي ولجنة الأمن القومي للمجلس الأعلى للدولة العميد عادل عبدالكافي أن التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها 'القاعدة' و'داعش'، نشطت في الساحل والصحراء الأفريقية وصولاً إلى بحيرة تشاد، مبرزاً أن هذه التنظيمات منذ أعوام قامت بتجميع عناصرها واستحدثت قيادات جديدة، وأقامت معسكرات تدريبية جديدة وبدأت بعمليات ضد بعض الدول في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، مستغلة حالة التفلت الأمني لإعادة تفعيل نشاطها. عوامل تجعل ليبيا مرشحة لاحتضان نشاط التنظيمات الإرهابية، بخاصة أنها تتقاسم حدوداً جغرافية مع السودان وتشاد والنيجر المحاذية لمالي المخنوقة حالياً من تنظيم 'القاعدة'. وأشار عبدالكافي في حديثه إلى أن هناك تقريراً للـ'سي آي إيه' يتحدث عن عودة نشاط وتجمع لعدد من التنظيمات الإرهابية غرب السودان، والمقصود هنا ليبيا التي تتوفر على مساحات شاسعة غير مؤمنة خارج سيطرة معسكر 'الرجمة'، غير أن هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة تحتاج إلى دولة متماسكة وسلطة تنفيذية موحدة حتى تفعل قواعدها الأمنية لملاحقة العناصر الإرهابية. وتابع الخبير العسكري أنه بعد اندثار تنظيم 'داعش' في سرت وسقوط إمارته، انتشر عدد من عناصره التي لم تقتل وتوزع بعضها جنوب ليبيا، فيما انتقل آخرون إلى دول الساحل والصحراء الأفريقية لإعادة ترتيب صفوفهم.

أضاف أن هناك خطراً حقيقياً يحدق بليبيا لأن عناصر التنظيمات المتطرفة ما زالت في حالة خمول، وهي بصدد إعادة ترتيب صفوفها، لأن هناك تقارير دولية على غرار تقرير الـ'سي آي إيه' المذكور سلفاً، تؤكد أنها بدأت تعيد تجميع عناصرها مرة أخرى،  فليبيا بيئة خصبة لعودة التنظيمات الإرهابية لا سيما 'القاعدة' في ظل الفوضى الأمنية وتهريب السلاح والهجرة غير النظامية، التي تعد أحد مصادر تمويل هذه الجماعات الإرهابية.

وأشار عبد الكافي إلى أن التنظيمات الإرهابية هي أجندة تستخدم في أية بقعة بالأرض لتحقيق مصالح بعض الدول سواء كانت ليبيا أم دول الساحل والغرب الأفريقي، موضحاً أن هذه التنظيمات تستغل لتحقيق مصالح دول بعينها حتى تكون هناك ذريعة لشن تدخل عسكري في هذه الدول والسيطرة على مواردها الاقتصادية. وحذّر من أن دول المنطقة بما فيها ليبيا وتشاد والسودان ومالي والنيجر، في وضع وصفه بـ'بالخطر جداً' الذي يحتاج إلى تعاون أمني واستخباري وتبادل للمعلومات في ظل أنظمة سياسية مستقرة تستطيع أن تعمل من خلال أذرعها العسكرية والأمنية لتحقيق نتائج ملموسة ضد هذه التنظيمات الإرهابية، لأن الدول الإقليمية تستغل أجندة التنظيمات الإرهابية لتحقيق مزيد من الفوضى على غرار ما يحدث في السودان.