المؤلف والسلطة.. روجر وبستر

المؤلف والسلطة

روجر وبستر

ترجمة ا.د. كاظم خلف العلي

استاذ اللسانيات والترجمة

كلية الآداب- جامعة البصرة

[email protected]

كان مفهوم المؤلف محوريًا في النقد الأدبي ومنهج الأدب الإنگليزي منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما أصبحا معروفين بوصفهما مجالين معرفيين. لقد أصبح النقد والسيرة الذاتية في بعض الأحيان غير قابلين للتمييز تقريبًا عن بعضهما مع بعض: لذلك كلما عرفت أكثر عن حياة المؤلف، زادت احتمالية فهمك للأدب الذي كتبه. ولم يُنظر إلى الأدب على أنه منفصل عن الشخص الذي أنتجه، والمقتربات إلى شكسبير تدل على ذلك. لقد ألقى أي سي برادلي A.C. Bradley محاضرة عن 'شكسبير الأنسان Shakespeare the Man' (1904) وحاول تكوين صورة لوعي شكسبير وحساسيته من قراءة مسرحياته على الرغم من أنه يعترف بأن معرفتنا عن السيرة الذاتية لشكسبير قليلة، إلا أن هذا لا يمنع تخمينه بشأن الجوانب الحميمة لعقل شكسبير ومشاعره والرغبة في فهم شخصية الإنسان الذي يبدو لنا أنه فهم طبيعتنا البشرية المشتركة بنحو أفضل وموقفه من الحياة'(5). وبعد خمسة وثلاثين عامًا، وجدنا نهجًا مشابهًا في 'حياة شكسبير وفنه 'Shakespeare’s Life and Art لبيتر ألكساندر Peter Alexander (1939) والذي يحدد موقع المسرحيات في مخطط سيرة ذاتية يدعم النقاش النقدي، بدءًا من صورة نشأة شكسبير وتعليمه. ويعترف أف آر ليفيز الذي كتب مؤخرا عن سخرية سوفت Jonathan Swift بالتمييز بين السيرة الذاتية والنقد الأدبي، لكنه في الوقت نفسه يشرع في وصلهما معا ثانية:

أرغب في مناقشة كتابات سوفت- لفحص ماهيتها؛ وهي (كما يشهد الشرح الموجود) من النوع الذي يصعب بنحو خاص مناقشتها دون تحويل تركيز المناقشة إلى نوع الرجل الذي كان عليه سوفت… في محاولة لقول ما الذي يجعل هذه الكتابات ملفتة للنظر، إن الإشارة إلى الرجل الذي كتبها ضرورية حقًا …(6)

وفي الوقت الذي دار فيه بعض الجدل عن العلاقة بين المؤلف والعمل في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي، لا سيما حول مسألة القصدية كما سنرى قريبًا، حدثت تحولات جذرية منذ الستينات تحدت الافتراضات التقليدية المتعلقة بالمؤلف بوصفه منشئا أو منتجا للعمل الأدبي: وهو ما شكك في سلطة المؤلف على النص. و أفضل مثال على هذه الجدل هو مقال رولان بارت Roland Barthes 'موت المؤلف The Death of the Author'، الذي نُشر في عام 1968. وفي هذا المقال، جرى مهاجمة ما يمكن أن نسميه مغالطة السيرة الذاتية:

تتمحور صورة الأدب التي يمكن العثور عليها في الثقافة العادية بنحو استبدادي حول المؤلف، وشخصه، وحياته، وأذواقه، وعواطفه، بينما لا يزال النقد يتمثل في الغالب في القول بأن عمل بودلير يمثل فشل بودلير الرجل، وفان غوخ جنونه، وتشايكوفسكي رذيلته. دائمًا ما يبحث عن تفسير العمل في الرجل أو المرأة الذي أو التي أنتجه/انتجته، كما لو كان دائمًا في النهاية، بواسطة الاستعارة الخيالية الشفافة بدرجة أو أخرى، صوت شخص واحد، المؤلف الذي 'يثق' فينا (7).

يجادل بارت أن اللغة هي التي تتحدث لا المؤلف، وأن بنا حاجة إلى التخلي عن النهج المتمحور على المؤلف إذا أردنا إدراك النطاق الكامل للمعاني الموجودة في النص الأدبي. وبمجرد أن يتداول النص، يقطع الحبل السري بين المؤلف والنص ويعيش النص في وجود مستقل. يثير بارت أيضًا أسئلة سنبحثها قريبًا عن شخصية المؤلف في عملية الكتابة. ويختم بالقول إن 'تعدد' المعاني التي يتكون منها النص لا يركز على المؤلف، بل على القارئ: 'لا تكمن وحدة النص في أصله بل في وجهته'، وأن بنا حاجة إلى قلب أسطورة المؤلف: 'ولادة القارئ ينبغي أن تكون على حساب وفاة المؤلف'. ينبغي ألا ننسى أن مقال بارت هو في حد ذاته نص انتج في لحظة تاريخية معينة، وأن عام 1968 كان بالطبع وقتًا فيه العديد من التحديات للسلطة الراسخة في المجالات الثقافية والتعليمية؛ إن التخلي عن المؤلف له أهمية خاصة في هذا السياق، كما هو الحال فيما يخص الآراء السابقة التي تحدد موقع المؤلف كنقطة محورية للإنتاج الأدبي. ويمكن توضيح نقطة بارت عن استبداد المؤلف بمثال مناقشتي السابقة: لا يهتم العديد من النقاد والمنظرين الذين يتجنبون الحديث عن وعي عن موقف المؤلف أو وجهات نظره فيما يتعلق بالنص الأدبي في ضوء هذه الأفكار بهذا الأمر. ويبدو أن الحديث هو عن نقاد ادبيين أو منظرين كمؤلفين- مثل أف آر ليفيز ورولان بارت. (عن 'النص' كما ينطبق على أي نوع من الكتابة- الأدبية أو غير الأدبية- انظر الفصل الموسوم العلاقات النصية). من الصعب للغاية تجنب الأعراف في خطاب معين، ولا يزال الناس بالطبع يشيرون إلى المؤلفين عند الحديث عن الأدب. النقطة المهمة هي إدراك أهمية 'المؤلف' عند التعامل مع المصطلح حتى لو لم نتمكن – أو لا نرغب – في التخلي عنه.

اتخذ ميشيل فوكو Michel Foulkaut مقاربة أكثر تاريخية للتأليف في مقال بعنوان 'ما هو المؤلف؟ What is an Author?' (1979) (8). وفي نقاشه، يرتبط شكل المؤلف بظهور الثقافة الغربية لما يسميه فوكو 'التحويل للفردانية Individualization'، أي المكانة المركزية التي يشغلها أفراد محددون في الطريقة التي ترتب أشكال المعرفة. ويضفي المؤلف بهذا النحو الهوية والمكانة على أنواع مختلفة من الكتابة أثناء تداولها في المجتمع، وهو يقدم نقطة تقدير، وحدة متينة وأساسية. ويسمي فوكو الطرق التي يستعمل بها اسم المؤلف للتحكم في تداول الأدب بوظيفة المؤلف، ويقترح أنها في الواقع طريقة لتقييد طرق القراءة والمعاني التي يمكن أن تنشأ من النص. ويجادل بأن شخصية المؤلف لم تكن مهمة جدًا للأعمال الأدبية قبل القرنين السابع عشر أو الثامن عشر، عندما لم تكن هناك حاجة إلى ختم موافقة المؤلف الفردي للتحقق من صحة 'حقيقته' أو سلطته وحين كانت الأعمال تقبل دون الكشف عن هويته. ومع ظهور المجتمع البورجوازي والتركيز الجديد على الملكية وقوانين الممتلكات، إلى جانب نمو المعرفة العلمية كطريقة لتفسير العالم، أصبحت النصوص الأدبية أكثر أهمية كمنتجات ومؤشرات للفردانية، واحتلت مجالًا مختلفًا إلى حد ما.

تتمثل وجهة نظر فوكو على أن وظيفة المؤلف تخدم غرضًا أيديولوجيًا: أي أن المؤلفين يمثلون عمومًا على أنهم مصدر الموهبة والعبقرية والخيال الابداعي، ولكنهم يعملون بطريقة معاكسة لذلك. يمكن عد تصنيف الأعمال وفقًا للمؤلفين بمثابة عائق أمام التداول الحر للمعرفة والقيمة التي تحكمها مفاهيم وتقاليد التأليف والسيرة الذاتية. وما يبدو أنه يمثل لليفيز مسألة حكم وتجربة وحدس في معرفة أو 'وضع' عمل أدبي، يصبح لفوكو عملية أيديولوجية محددة آنفا إلى حد كبير والتي تعمل على الحفاظ على المعرفة ومن ثم السلطة في أقسام معينة من المجتمع. وبالتالي، فإن وظيفة المؤلف هي استراتيجية احتواء تضع الأدب والقارئ فيما يتعلق ببعضهما مع بعض، ولا تسمح بحرية الاستجابة التي تُفترض عادة بواسطة عبارات مثل 'خيال المؤلف'. والمسألة الأخيرة التي أشار إليها فوكو هي أن تقليد المؤلف لا يسبق النص الأدبي، بل يتبعه، و هذا قلب لواحد من جوانب عملية الإنتاج الأدبي كما هو مفهوم عادة. وما يعنيه بهذا هو أن الفكرة التي لدينا عن 'شكسبير' أو 'وردزورث' تنشأ بعد أن كانت أعمال هؤلاء المؤلفين متداولة للجمهور، وأن جزءًا من تنظيم الأعمال الأدبية والتحقق منها في ثقافتنا يتم بواسطة بناء شخصية المؤلف فيما يتعلق بعمله أو عملها. إن ظهور سلسلة كاملة من السير الذاتية في القرن التاسع عشر لمن يسمون بالكتاب العظام، على سبيل المثال 'سلسلة رجالات الأدب الانكليز 'The English Men of Letters Series و 'سلسلة معجم السيرة الذاتية القومي 'The Dictionary of National Biography، اللتان حررتهما ليزلي ستيفن Leslie Stephen، أمثلة جيدة ظهرت بالتوازي مع 'اللغة الإنگليزية' كموضوع وخطاب النقد الأدبي.

قد تبدو مناقشات بارت وفوكو متطرفة وغير مقبولة، ولا أريد أن أقترح أنها أوصاف نهائية لشخصية المؤلف. ومثلما يقر بارت وفوكو نفساهما، فإن شخصية المؤلف تشكل موقعًا للنقاش وقد استثمرت مع العديد من الدلالات تاريخيا، وينبغي أن ينطبق هذا على مناقشاتهما الخاصة أيضًا. ومع ذلك، فإن أفكارهما استفزازية وتقودنا إلى مساءلة ما تم عده 'حقائق' بديهية فيما يتعلق بالأدب. إن المقالات المعنية تسعى إلى التنظير و أشكلة 'المؤلف 'حتى لا يصبح فئة مفترضة أو' طبيعية '.

سنعود إلى طرق فهم المؤلف في الفصل الخامس الموسوم بالعلاقات النصية.