فن الانسحاب واستراتيجية القوة والضعف

7 يونيو، 2025

بغداد/المسلة:

إنعام العطيوي

قد يٌنظر للانسحاب احياناً على انهٌ ضعف او انهزام، وقد يؤخذ على الشخصية المنسحبة انها شخصية مهزوزة ليس لها قرار، لكنهُ في حقيقة الأمر يتمتع بقوة وشجاعة و قدراً عالياً من المرونة للخروج باقل الخسائر وكسب أكثر الأطراف للتعايش معاً في الظروف الإستثنائية، فليس دائماً يكون الإنسحاب هزيمة أو نهاية للنجاح، وإنما هو بداية للتحول من مسار الحرب الباردة والصراعات الوهمية إلى عالم الإستقرار الواقعي والسكينة والوضوح والسعي لخوض غمار تجربة جديدة تتسم بالاستقرار النفسي والذكاء العاطفي والحكمة في إدارة المواقف، كما أشار لهُ دافينشي 'بأنه ذكاء من الشخص لبلوغ الحصانة منعاً للصدام' في حين جاءت الفلسفة العسكرية لفن الحروب بأنها دائماً ما تَطرح صفات القائد العسكري الناجح الذي يُحدد متى يخوض غمار الحرب أو الإنسحاب منها.

حتى وإن كان فيها النصر مَحتوم ويجعل من الإنسحاب هو جوهر الإنتصار الحقيقي عندما يدرأ عن جنده وقوته وطاقته ووقته شر القتال، ومتى يتراجع القائد الذكي من القتال في حروبٍ وهمية أو اهدافٍ واهية، فالشجاعة الحقيقية هي ليست الأقدام مُضياً للمعركة وإنما القُدرة الحقيقية تتجلى في تَرسيخ سُبل السلام ومعالم الرخاء والرفاهية والطمئنينة والعمل على التطور والبناء، عندها يكون الاقدام تهوراً، لذا فأن للانسحاب فناً لا يدركهُ الا من يستشف المستقبل ويُمارس خبرة العلاقات العامة البشرية وفطن هموم الناس وحكم نظريات علم الاجتماع التي سجلت مواضعٍ يجدر الانسحاب منها وهي (حينما تكون العلاقات سامة وتتحول الى علاقاتٍ مستنزفة للطاقة النفسية والبشرية والمادية ومحبطة للذات ومدمرة للكرامة ومهينة للمشاعر حينها وجب الإنسحاب .

أما في العمل عندما يكون الارتباط بمشاريع عمل فاشلة مستهلكة للموارد البشرية والمادية ومستنزفة للطاقة والوقت والجهد والمال والمعدات وذات مردودات لا تتوازى والأنفاق والتكاليف والارباح يكون حينها وجب الإعتراف بالفشل والانسحاب حفاظاً على ما تبقى من رأس المال البشري والمادي والنفسي، وبناء خُطى استراتيجية لخلق فرص عمل جديدة مدروسة وناجحة تحت خطط علمية تتماشى وحداثة السوق المستقبل للعمل، أما الموضع الثالث للإنسحاب فهو في النقاشات العقيمة الغير مُجدية التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع فحفاظاً للطاقة والجهد ودرأً للخلافات وتقريباً لوجهات النظر، التي قد ينشب على إثرها تصعيد للمواقف حينها يكون التوقف والإنسحاب غنيمة، أما بما يخص الأهداف فلا بد من ترسيخ نظرية الأهداف تكون واضحة المعالم ومُحددة الرؤى ومَضمون النتائج.

وإلا فان الإنسحاب من الاهداف صعبة المنال وخيالية التحقق يكون حفاظاً على الموارد وتطوراً في بناء رؤى جديدة واختيار مسار جديد) وهو ليس جبناً او ضعفاً او هزيمة بل هو قوة كامنة قائمة على ( مدى الوعي والحكمة في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصح، وامكانية الذكاء العاطفي في قوة توجيه مسار الأمور العالقة، وقدرة الفراسة لاستشراف المستقبل وقراءة الاحداث لمدى بعيد ومحاولة اتخاذ الاجراءات المعالجة قبل حدوث الكوارث.

وتحديد الأولويات لتغيير المسار حسب الأهمية ورسم خطط مستقبلية بديلة، والقدرة القيادية في سرعة اتخاذ القرارات في المواقف الصعبة التي قد تبدو مُخالفة للحدس والتوقعات وقراءات المُتلقي ومباغتة للطرف الآخر تعمل بايهامه بلذة الانتصار الوهمي فيكون حينها الانسحاب يحمل عنصران احدهما واقعي والاخر وهمي، أما الوهمي فيستشعر المقاتل الخيالي الذي ينسج اعدائه من عالمه الخيالي بلذة الانتصاره المستوحى من عالم صراعه المتخيل الذي صنع لنفسه أزمات خيالية لا تمت للواقع بصلة، النابعة من فراغهِ النفسي وانتكاساته العاطفية التي طالما كان منشئها هي صراعات داخلية منذ الطفولة لتتبلور كأفكار تتجسد كسلوكيات مأزومة، اما الواقعي فيكون قد خسر الاستعداد للخطط البديلة التي فاقت توقعاتهِ وفوتت عليه فرص الانتقام والايذاء والتلذذ بشراسة الخلق الذميم).

فالانسحاب في جوهره يعد مواجهة حكيمة تتجسد فيها القدرة على التخطيط التكتيكي بمدى تأثير الانسحاب ومتى الاقدام فليس كل اقدامٍ واصرارٍ انتصاراً بل هو استنزاف للجهد والعقل والصحة والطاقة النفسية والجسدية، فمن الناحية النفسية يتطلب الانسحاب وعياً عالياً وتخطيطاً مستقبلياً مدروساً وسرعة في القرار فهو يأتي كأخر الحلول ويكون بديلاً عندما تستنزف الطاقات ويتوقف النمو والابداع ويركد التطور وتزداد التكلفة والخسائر وتتوقف مشاعر القدرة على العطاء والاقدام حينها يكون للانسحاب له الدور القيادي المتقدم على كل الحلول، لذا فهو فن لا يتقنه سوى الحكماء الراغبين باقتناء انتصارات حقيقية على ارض الواقع واثبات تنمية وتطور حقيقي والحفاظ على الجهد والمال والوقت ويمتلكون قدرة التصالح مع الذات والسعي الفاعل لترسيخ السلام وبناء التنمية ونشر الطمئنينة ولا تغريهم الارباح او الخسارات الصغيرة لانهم يستقرؤون النجاحات المستقبلية الكبيرة، ومن انجح الانسحابات هو كسب الخصوم والتنازل عن المكاسب المسببة للصراعات ودراء الخلافات المنتجة للازمات والخروج باقل الخسائر وتوطيد الود ومحو الازمات الوهمية والخلافات المتخيلة وهنا يأتي عامل المسافة والمكان والوقت ليؤدوا دورهم في تغيير النفوس والمسارات والاهتمامات وكسب المجتمعات المتناحرة لذى فغالباً ما يكون الانسحاب مرهوناً بالتنازل عن مكاسب وحقوق وامتيازات والتخلي والاستغناء عن مواقع ونفوذ ارضاءً للأطراف المواجهة فلكل انسحاب ثمن مستقبلي يجنيه المنسحب في خططه المستقبلية .

اما الحروب المتخيلة فهي تخلق شخصاً مأزوماً يكون ارضية خصبة للأمراض النفسية وعلى العقلاء ان لا يسمحوا لأنفسهم للانخراط بعالمه المتخيل والدخول في حروبٍ وهمية غير حقيقية لان لكل إنسان تاريخ يسجل له انتصاراته وانهزاماته ومواقفه وبطولاته وشرف المهنة واكاديميتها وحكمته وعقله بالتعامل والتصرف وادارة المواقف، فأن نال رضا النفس والسير على هواها عُد شخصاً هوائياً تغيبت لديه الحكمة واضمحلت عنده الرؤى وفقد رأس مالهُ الاجتماعي في الثقة لجمهوره وعند اول تغيير لن يكون مصدراً للثقة ولا سنداً للتعامل..

هكذا تُدار الأمور بحنكتها العلمية للقوة والضعف فليس هناك قوة دائمة دون ضعف وليس هناك ضعفاً دائما دون بلوغ القوى ولكن الحكمة الحقيقية هي متى تستخدم هذه القوة وطريقة استخدامها ومع من تستخدمها ولماذا استخدمت، ولا تُتُرك للاهواء النفسية والمزاجية والإفراط في استخدام القوة بكل المواضع حينها يعد ضياعاً وتهوراً ومرضاً نفسياً نابعاً من الشعور بالنقص واكبات القوة حد الهوان يعد خنوعاً وضعفاً مرضياً يؤدي للجبن وضياع للعدالة وتدمير للذات والكيان وانتهاكاً للحقوق، فعندما كتب الفيلسوف 'جون لوك' عن إدارة الحقوق ركز على فكرة العقد الاجتماعي والحكومة المحدودة والتي جاءت للتغلب على نقائص الحالة الطبيعة وحمايتها بشكل أفضل، إذ يتفق فيها الأفراد على تشكيل مجتمع سياسي من خلال عقد اجتماعي، اما الغرض الأساسي للحكومة التي تنشأ عن هذا العقد ليس سلب الحقوقز

بل حماية هذه الحقوق الطبيعية مثل (الحياة، الحرية، الملكية)، كما أكد 'جون لوك' على مفهوم الحكومة المحدودة. فالسلطة التي تُمنح للحكومة ليست مطلقة، بل هي وديعة تودع بيد الحكام، وعليهم ممارستها لتحقيق الخير العام وضمان حقوق الأفراد، بالمقابل تكون السلطة التشريعية هي السلطة العليا في الحكومة، كونها تمثل إرادة الشعب وتحدد القوانين، فلا سلطة تدار بدون تشريع ولا تشريع يمنح دون عقدٍ اجتماعي ولا عقدٍ اجتماعي يُعقد دون اتفاق مسبق وتمثيل للمكونات واعتراف بالحقوق ومساواة في العدالة.

اما الاستغلال للنفوذ والسلطة وهضم للحقوق وتسويف للعدالة و استخدام القوة لتضييع المساواة والمراوغة الإدارية فهي أساليب لا تمت للمروءة بصلة ولا تندرج للعدالة بقانون بل هي جانباً آخر من جوانب الحرب النفسية المستخدمة بصيغة الحروب الحديثة التي تمتطي اداة العنف الإداري لتسويف الحقوق ونشر المفسدة ولنا معكم لقاءاً آخر في موضوع العنف الإداري.

About Post Author

moh moh

See author's posts