اخبار الجزائر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٨ حزيران ٢٠٢٥
بين كتب المقررات المدرسية وكراسات الدروس كانت هناك دائماً قصة مصورة أو رواية بوليسية مخبأة بعناية
جاء جيلنا المزدوج اللغة إلى قراءة الأدب الجاد والجيد من طريق ثقافي خاص جداً. ففي سبعينيات القرن الماضي، كنا، أطفالاً ومراهقين، شغوفين بقراءة نوع معين ومثير من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، إنها القصص المصورة والروايات البوليسية.
في البيت وفي المتوسطة وفي الثانوية وفي الشارع وفي طريق المدرسة… لم نكُن نتحدث سوى عن مضامين هذه القصص المصورة والحيل والتحقيقات المعقدة في الروايات البوليسية.
كنا وبكثير من الحماسة نروي لبعضنا القصص والنكت والمقالب التي حملتها قراءاتنا الليلية التي تمتد حتى مطلع الفجر. نقرأ ونراقب أية حركة قد تصدر من غرفة الوالدين.
بين كتب المقررات المدرسية وكراسات الدروس، كانت هناك دائماً قصة مصورة أو رواية بوليسية مخبأة بعناية.
ولم تكُن هناك محفظة مدرسية واحدة من دون قصة مصورة أو رواية بوليسية بداخلها!
مموهة تحت غلاف كتاب مقرر الجغرافيا أو التاريخ، لمرات عدة فاجأني المعلم أو الأستاذ وأنا غارق أقرأ قصة مصورة في ساعة حصة الرياضيات، أو العلوم الطبيعية، أو التربية الدينية، لا يهم.
هوس يومي ثقافي عاشه جيلنا بشغف حتى أضحت القصص المصورة أو الرواية البوليسية نوعاً من المخدر- القراءة لجيل بأكمله!
كنا نحن زملاء المدرسة وأبناء الحي والجيران نتبادل القصص المصورة التي قرأناها، وكل قصة مصورة يقرأها الواحد منا، يجب أن تنتقل بين أيدي جميع الشباب في الحي، هي القراءة التشاركية. وفي الأمسيات التي تطول، بخاصة في نهاية عطلة الأسبوع، كنا نتفاخر بعدد القصص المصورة التي قرأناها خلال أيام الأسبوع.
كنا نؤجر القصص المصورة والروايات البوليسية، لتبقى معنا، مدة ثلاثة أيام أو ثلاث ليالٍ. وكانت هناك أكشاك متخصصة في بيع وشراء وتأجير وتبادل القصص المصورة والروايات البوليسية. وكان أصحابها يعرفوننا بأسمائنا ويقدمون لنا الجديد كلما أسرعنا إليهم، وفي أيدينا تلك القطعة النقدية، وكانوا أمناء صادقين ومتعاونين معنا، إذ يحدث أن يؤجر لنا الكتاب من دون أن ندفع، ومرات يمنحنا عنواناً هدية.
كان العالم نابضاً بالحركة، سحرياً، ومليئاً بالحيوية والتنافس الاستثنائي حول قراءة القصص.
وتشكل جزء من خيالنا الجمعي في رؤية العالم من حولنا من خلال سلوك لبعض أبطال وبطلات القصص المصورة والبوليسية التي قرأناها، وكانت هذه الكائنات الورقية حاضرة دائماً في نقاشاتنا، في جدالاتنا الحماسية والبريئة! فبالنسبة إلينا كانوا يجسدون رموز الشجاعة والذكاء والوفاء والصداقة والحب.
ومثلت لنا القصص المصورة والروايات البوليسية منجماً للحلم الاجتماعي والثقافي والعاطفي والجنسي!
نحن جيل نشأ وكبر لغوياً بين صفحات القصص المصورة والأدب الأسود، فكنّا نحفظ عن ظهر قلب كثيراً من العبارات التي يستخدمها أبطالنا في حواراتهم، ولأعوام طويلة كنا مسحورين بملابسهم وضحكاتهم وقصات شعرهم، وأحذيتهم العالية وقبعاتهم…
إنه فن للحياة!
ليست هناك قراءة من دون انبهار ومتعة، وهذا كنا نعثر عليه في القصص المصورة والبوليسية السحرية تارة والمعقدة تارة أخرى.
لا أحد من جيلنا لا يتذكر 'بليك لو روك' و'أستيريكس' و'تان تان' و'السنافر' و'لاكي لوك' و'غاستون' و'بلاك جاك' و'بلو بيري' و'الكابتن ألْباتور' و'زيد يا بوزيد'، و'مقيدش' وغيرها. وكثيراً ما كنا نخلط بين اسم الكاتب واسم بطل القصة، أو بين الكاتب والعنوان، لا بأس! ومع ذلك كان كل شيء واضحاً. كنا نرسم ونلوّن مستقبلنا على ألوان وأشكال رسومات القصص المصورة وذكاء الشخصيات البوليسية وحنكتها!
ببساطة، جاء جيلنا إلى القراءة الواعية العميقة، أي قراءة الأدب الجيد والجاد، من هذا الطريق، طريق القصص المصورة والروايات البوليسية! ومأ أمتعه من طريق.
أعتقد بأن الأمر لا يزال قائماً حتى الآن، فأي فضاء ثقافي يخلو من هذين الصنفين الأدبيين هو فضاء عقيم، بارد ومنفر وغير مثير. وللوصول إلى خلق جمهور من قراء الأدب الجيد، يجب تشجيع حضور الأدب البوليسي والقصة المصورة في سوق الكتاب.
وهذا النوع من الأدب، بشكله وبمضامينه المراوحة ما بين التسلية والمتعة، هو المحفز لقارئ الغد، نعم الأدب تسلية ومتعة، وإذا ما خلا من ذلك فقد فلسفته وسرّ وجوده.
لقد أنقذنا هذا الأدب - القصة المصورة والرواية البوليسية، من رتابة وروتين المدرسة من جهة، ومن رتابة وتكلس الأدب الواقعي والأيديولوجي الخالي من الروح.
وأجزم بأن المجتمع الذي يفتقر إلى تقليد قراءة القصص المصورة والرواية البوليسية، لن يتمكن يوماً من إنتاج عملية تداول أجيال القراءة، فإن تجديد القراء المستنيرين والفطنين يتم عبر انتشار قراءة القصة المصورة والرواية البوليسية لما فيهما من جاذبية تسحب القارئ الجديد إلى الغرق شيئاً فشيئاً في بحر 'الأدب الكبير' على حد تعبير أبي حيان التوحيدي.
واليوم، الجميع يتحدث عن أزمة القراءة، وكثيراً ما تتردد العبارات الكئيبة التالية، الشباب يعزفون عن القراءة والمكتبات التجارية فارغة ومن دون زبائن ومكتبات المطالعة العامة مهجورة.
لكن، أما طرحنا على أنفسنا هذا السؤال، يا ترى ماذا فعلنا لنعيد الشباب للقراءة؟ ماذا فعلنا لنعيد الزبائن لشراء الكتب من المكتبات؟ وماذا فعلنا لمرافقة المشتركين إلى المطالعة في المكتبات العمومية؟
تحت سماوات أخرى، في بلدان الشمال وبلدان مطلع الشمس، في أوروبا وفي اليابان وفي الولايات المتحدة وفي الصين، تولد أجيال جديدة من القراء عبر تشجيع وتعزيز أدب القصة المصورة والرواية البوليسية.
أما عندنا، في الجزائر، فما لاحظنا، خلال الأعوام الأخيرة، هو أن الشباب باتوا يهتمون بصورة متزايدة بالقصص المصورة. ففن 'المانغا' الياباني أيقظ القارئ الجزائري! تتسلل رويداً رويداً هذه الكتب المرسومة إلى المكتبات، وشيئاً فشيئاً تستقر في الحقل الثقافي الوطني، رسامون شباب موهوبون يجيئون يومياً إلى فن 'المانغا'، يبدعون بإدهاش، وهم في ذلك وبذلك يؤسسون لتقاليد جديدة في مشهد الكتاب بالجزائر، ومن المؤكد أن المهرجان الدولي للقصص المصورة في الجزائر الذي أُطلق عام 2008 تحت إشراف السيدة دليلة ناجم، ولا يزال مستمراً، ترك بصمته على الساحة الثقافية، ودفع الشباب إلى هذه المغامرة الجميلة، مغامرة الإبداع القصصي المصور، وفي المقابل خلق جيلاً جديداً من القراء.
لا يمكن للجيل الجديد من القراء في الجزائر، كما في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أن يتصالح مع تقليد القراءة الكلاسيكية إلا من خلال بوابة القصة المصورة والرواية البوليسية، لذا وجب على أصحاب القرار الثقافي أن يولوا هذا الأدب، إنتاجاً وترجمة، عناية خاصة جداً. بهذا المنظور يمكن أن نحول آلاف المتحمسين لـ'المانغا' وللرواية البوليسية إلى قراء للأدب الجيد، قراء الغد، إذا ما استطعنا أن نعرض عليهم، في الوقت المناسب والمكان المناسب والحال المناسبة، مجموعة جيدة من القصص المصورة ذات الطابع الإنساني العالمي.
وإذ أصبحت 'المانغا' هاجساً ثقافياً وشعاراً أدبياً وفنياً عند كثير من الشباب، إذاً علينا ألا نفوت هذا الموعد مع التاريخ، تاريخ الثقافة والأدب والقراءة.