لامارتين وتجاوُز الأحكام المسبقة والصور النمطية

هويدا الحسن (العين)

يعتبر الشاعر ألفونس دي لامارتين (1790- 1869)، أحد أهم وأشهر شعراء فرنسا على مدار تاريخها الثقافي المديد، فضلاً عن تعدد مواهبه الأخرى في مجالات معرفية مختلفة، فقد كان شاعراً ومؤرخاً ورجل دولة شغل عدة مناصب دبلوماسية وسياسية، وفي الجمعية الوطنية الفرنسية، عضواً لمجلس النواب، وكان صاحب دور بارز في تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، وتبنى أفكاراً ديموقراطية ساهمت في إلغاء الرق وعقوبة الإعدام، فقد كان يؤمن بالعدل والمساواة ومنادياً بالسلام في حياته العامة، وأعماله الأدبية الرفيعة التي تعتبر الآن من كلاسيكيات الأدب الفرنسي والغربي بصفة عامة.

وعرف لامارتين أيضاً كشاعر سحره جمال الشرق، حيث سافر إلى بلاد الشام، وخاصة سوريا ولبنان والأراضي المقدسة في فلسطين، حيث كتب «رحلة ري الشرق»، واستلهم من زياراته للشرق العربي موضوعات لخلق حبكات وأبطال و«ثيمات» رومانسية جميلة في أشعاره.

مسعى إيجابي

كما انخرط لامارتين في كتابة عمل عن «تاريخ تركيا» والدولة العثمانية ضمن موسوعة من ستة مجلدات، وخصص المجلد الأول لسرد سيرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، باعتبارها مدخلاً للتعريف بالأصول الدينية والفكرية والعقائدية للإمبراطورية العثمانية، وأيضاً ضمن مسعى إيجابي لتقريب الديانة الإسلامية إلى أذهان عامة الفرنسيين، حيث كان اطلاع كثير منهم في القرن التاسع عشر محدوداً على الثقافة الإسلامية، ولذا فقد لعب كتابه دوراً ملموساً في تعريفهم بها بشكل أوضح بعيداً عن كثير من الصور النمطية والأحكام المسبقة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

إعجاب وثناء

في هذا الكتاب الذي هو في الأصل مقدمة لموسوعة «تاريخ تركيا» وصدر عام 1854، أبدى لامارتين إعجاباً شديداً بشخصية النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر هذا في كثير من مقاطع الكتاب ومنها قوله: «ما من إنسان البتة رسم لنفسه إدراك هدف أسمى مما نوى هو أن يبلغ، إذ كان هدفاً يفوق طاقة البشر، يتمثل في نسف المعتقدات الزائفة التي تقف بين المخلوق والخالق، وإرجاع الإيمان للإنسان، وإرجاع الإنسان لخالقه، وبيان فكرة الألوهية المجردة المقدسة في خضم فوضى المعتقدات المشوّهة، وآلهة الوثنية. وما من إنسان البتة -في نهاية المطاف- قدر أن ينجز في وقت قياسي ثورة على الأرض، أعظم ولا أبقى مما أنجز النبي محمد، صلى الله عليه وسلم».

مما لا شك فيه أن شاعراً ورجل دولة بحجم وأهمية لامارتين، عندما يتصدى لكتابة سيرة نبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم، ويقدمها بصورة فيها الكثير من الإيجابية والإعجاب، فهذا موقف إيجابي منه يستحق كل إشادة وتقدير، خاصة في ذلك الزمن، حيث كانت الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين متفشية في الغرب، وأحياناً مرتبطة أيضاً بالمواقف السلبية وأحياناً العداء المعلن للإمبراطورية العثمانية وتاريخها الممتد في أوروبا. وعلى الرغم من أن الكتاب في الأصل تاريخي في المقام الأول يرصد تاريخ منطقة شبه جزيرة العرب والظروف المحيطة بنشأة الدعوة وانتشارها، إلا أن بعض المتعصبين في الغرب انتقدوه، حتى إن بعضهم اتهم لامارتين حينها بأنه «باع نفسه للمسلمين»، وعلى رغم موقف لامارتين السلبي ضد الإمبراطورية العثمانية، كغيره من المثقفين الأوروبيين حينذاك، إلا أنه كان حيادياً ومتوازناً في معظم الحالات فيما يخص موقفه من الإسلام كدين سماوي، حيث رأى أن روحه وأسسه ومنطلقاته متوافقة مع روح وأسس ومنطلقات ديانته المسيحية في التعاليم ولا يتعارض معها.