السابع من أكتوبر ليس عمليةً عسكرية

أكتب الآن في اليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، التي تتخذ موقعاً مختلفاً تماماً عن سجلات الصراع الإسرائيلي العربي وليس الفلسطيني وحسب، غير أن المقاومة الفلسطينية، وخاصةً الإسلامية، بقيادة كتائب القسام وعبر مشروع الشيخ أحمد ياسين، تحملت كِفلَ هذه الحروب الموسمية دون أي شراكة عربية ميدانية.

وفي ظل انفتاح ضخم للدعم العربي الرسمي لـ'إسرائيل'، الذي كان ولا يزال متشوقاً للتطبيع؛ ظناً منه أن ما تعد به الحكومات الصهيونية المتعاقبة في صناعة تأهيل نظامه الرسمي في أكثر من دولة أصبح واقعاً على الأرض، فإن حسابات الصهيونية الجيوسياسية كانت مطمئنة تماماً لهذه الواقعية التي اعتقدها العرب، وأن الدولة الصهيونية باتت حقيقة مطلقة، رغم القلق الداخلي الذي ظل يعيشه إنسان الاحتلال.

ولذلك فإننا ونحن نكتب هذا المقال الذي يشبه تقدير موقف؛ لأننا في زمن مبكر للمعركة النوعية، نحتاج أيضاً إلى رسم صورة لرسائلها ومبرراتها بلغة التحليل السياسي، مع علمنا المؤكد بأن طلب نتنياهو من الإدارة الأمريكية الدعم لتغطية حرب انتقامية طويلة سوف يُجاب، لكن فواتير ما بعد الحرب خرقتها معركة الطوفان، وسيُخلق بعدها مدار آخر.

وذلك ليس تقليلاً من مشاعر الألم والروع الذي يعتصرنا ونحن نرصد ضحايا الجولة الأولى من حرب الانتقام، وتجاهل المنصات الدولية لمذابح المدنيين الفلسطينيين، في مقابل تفوق المقاومة على الجسم العسكري والسياسي لتل أبيب، غير أننا نضع هنا ظروف اللعبة وقواعدها التي انتهى إليها مشهد المعركة ومقدماته، وحينها نفهم كيف نقوم قرارات المقاومة ودعم شعبها لها، وأين نضعه في جدول الصراع الأكبر.

أولاً: الأنباء التي أعلنتها المقاومة ضمن عملها الاستخباري بأن تل أبيب كانت تُحضّر لوجبة عدوان مركزية، بعد حصيلة حصادها الاقتحامات الممنهجة للأقصى، والاعتداءات النوعية المتكررة، تؤكده شواهد عديدة، وتجربة المشروع الصهيوني في توسيع زحفه وتطرّف عدوانه.

ثانياً: هذه الثقة كانت تعتمد على تحقيق تقدم صهيوني كبير وتاريخي في ضم دول عربية عديدة عبر تصريحات رسمية إلى علاقات الصداقة الحميمية مع 'إسرائيل'، وعليه كانت القوة المتطرفة، في تشكيلات النظام الصهيوني الإرهابي، تسعى للاستفادة من هذا الزخم بين فرض أمر واقع على المقدسيين، ومباشرة اقتطاع وهدم أجزاء من الأقصى وتحويله لمعبد يهودي يتوسع بعد انتزاع مساحة من أرضه وحرمه تتمدد باستطراد.

ثالثاً: أسقطت تل أبيب الحد الأدنى من شرعية الصورة المزعومة لاتفاق أوسلو، وبات كل ما تملكه سلطة رام الله الصراخ الذي لم يوقف التنسيق الأمني، ولم يحمِ الشعب الفلسطيني، ولم يُعرقل ولو خجلاً سياسة تهويد القدس وهدم الأقصى، فالمقاومة هنا تفرض شروط تفاوض جبرية، لا بديل لها، ستظهر بعد المفاوضات الاضطرارية بعد الحرب، وحصر الصهاينة للخسائر النوعية لهم.

رابعاً: نخلص من ذلك إلى أن عملية المقاومة النوعية، التي تحولت لما يشبه خُلاصة معركة كاملة بعد ساعتها الأولى، استبقت خطة إسرائيلية جاءت في الأصل لحصاد مسيرة عدوان كبرى ومتتابعة، يتم من خلالها تحقيق هزيمة لكل فلسطين المحتلة، بتعزيز قبضة الاحتلال الصهيوني، وترسيم وجود أعنف ينتزع من حقوق الشعب آخر قدراته.

خامساً:  بقيت قضية التكلفة الإنسانية وهي مروعة في الجانب الفلسطيني الذي كان يسددها في دورات عديدة دون مقابل ردعي، أما اليوم فذوو الضحية ومقاومتها سددوا ضربة قوية ومؤثرة قبل أن يستكمل العدو مداره الأخير، فالخسائر المقابلة في صفوف العدو كانت أكبر من أي حصيلة توقعها منذ حروب الاستنزاف، ومن بعد حرب السادس من أكتوبر.

هنا نعود لتوصيف هذه الخسارة الضخمة في برنامج صناعة الكيان التاريخية والقوى الدولية والعربية الراعية التي انضمت إلى دعمه، وهي العودة المروعة في مشهد مخزٍ ومهين لجيشه ومعسكره الاستيطاني؛ لرعب عقيدة الزوال لذات الكيان التي لم تزل تهتف داخله. فأن تنهار قوة هذا الجيش في ساعات عبر خطة عسكرية أسطورية لقائد المقاومة، نُفذت من مئات من كوادر القسّام وبقية الفصائل، وأن تُخترق كل الخطوط الجيوسياسية وتأسر المقاومة العشرات من العسكريين وتؤمنهم في معتقلات خاصة، ثم تطوف بآليات ومجنزرات العدو وتصور اقتيادها لهم؛ فهذه ليست خسارة عملية، ولكنها رعب هزيمة حرب.

أضف إلى ذلك انكشاف واقع الاستيطان والهروب الجماعي منه، والاضطراب الواسع الذي وصل إلى قلب تل أبيب، والاختباء في شاحنات القمامة، واقتياد قيادات عسكرية واستيطانية، كل ذلك في غضون ساعات، يعني أن هذا الهيكل هو كيان هزيل، حتى مع كل قوته السياسية والاقتصادية، والدعم الدولي الأمريكي والغربي غير المنقطع له، ظهر ككتلة هزيلة رغم كل تاريخه المضخم.

 وعليه فإن صوت السقوط ليس هتافاً عربياً اليوم، ولكنه ضمير عميق عائد زلزل الذات الفردية والجماعية للغُزاة، وأيقظهم على لحظة رعب كبرى بأن شعب البلاد -وهم السكان الأصليون- لم يمت، بل إن قوتهم تعود، وقد تؤذن بزوالهم ولو بعد حين، فيعلن البيان الأول من منائر الأقصى، ومن أحياء القدس العتيقة: لقد سقطت نجمة صهيون وتحررت فلسطين.