اخبار السودان
موقع كل يوم -نبض السودان
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
متابعات- نبض السودان
في مشهد مروع وثّقته كاميرات المقاتلين أنفسهم، يظهر عناصر من مليشيا الدعم السريع وهم يستقلون شاحنة صغيرة تسير بسرعة في شوارع مدينة الفاشر التي تكتظ بالجثث، ويمرون بجانب تسعة قتلى، يضحكون بسخرية بينما تتجه مركبتهم نحو غروب الشمس في السودان.
مهمتنا هي القتل فقط: احتفال بالإبادة
يوثق أحدهم المشهد بكاميرا هاتفه صارخاً: 'انظروا إلى هذا العمل العظيم… إلى هذه الإبادة!'. ثم يوجه الكاميرا ليصور نفسه ورفاقه الذين يضعون شارات مليشيا الدعم السريع، مضيفًا بابتسامة متوعدة: 'سيكون هذا مصيرهم جميعًا'. كان هؤلاء المقاتلون يحتفلون بما وصفته منظمات الإغاثة لاحقاً بـمجزرة راح ضحيتها ما يزيد عن ألفي شخص في مدينة الفاشر، وذلك في شهر أكتوبر الماضي.
ويوم الاثنين، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في احتمال ارتكاب هذه المليشيا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتُعد الفاشر مدينة محورية في إقليم دارفور، وكانت آخر معقل لالجيش السوداني قبل أن تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع التي تخوض منذ عام 2023 حربًا دامية ضد الجيش عقب انهيار التحالف بين الطرفين.
وخلال عامين من القتال، قُتل أكثر من 150 ألف شخص، ويُتّهم الطرفان بارتكاب انتهاكات واسعة وجرائم حرب، تكررت مشاهدها المروعة بعد سقوط الفاشر.
مدينة معزولة عن العالم والحصار يكتمل بساتر ترابي ضخم
بعد حصار دام نحو عامين، بدأت مليشيا الدعم السريع، منذ شهر أغسطس، بتعزيز قبضتها على مدينة الفاشر، عبر تطويق من تبقى من السكان المدنيين وقطع طرق الإمداد عنهم.
وتُظهر صور الأقمار الصناعية أن المليشيا شرعت في بناء حاجز رملي ضخم (ساتر ترابي مرتفع) حول أطراف المدينة، الأمر الذي أدى إلى إغلاق جميع طرق الوصول إليها ومنع دخول المساعدات الإنسانية.
وبحلول أوائل أكتوبر، كان الطوق قد اكتمل بالكامل حول الفاشر، مع إقامة حاجز ثانٍ أصغر يطوّق قرية مجاورة. ومع تصاعد الحصار، قتلت مليشيا الدعم السريع 78 شخصًا في هجوم استهدف مسجدًا بتاريخ 19 سبتمبر، فيما أفادت الأمم المتحدة بأن 53 شخصًا آخرين قُتلوا في أكتوبر جراء ضربات بطائرات مسيرة وقصف مدفعي استهدف مخيمًا للنازحين.
اتهامات بالتعذيب لمهربي المساعدات
وأشارت مقاطع فيديو حقّق فيها فريق 'بي بي سي' لتقصي الحقائق إلى أن مليشيا الدعم السريع سعت إلى فرض حصار على الغذاء والمواد الأساسية.
ففي أحد مقاطع شهر أكتوبر، يظهر رجل مقيد اليدين والقدمين ومعلق بشكل مقلوب من شجرة بواسطة سلاسل معدنية، فيما يتهم المصوّر الرجل بمحاولة تهريب مساعدات إلى المدينة المحاصرة. ويُسمع المصوّر يصرخ: 'أقسم بالله ستدفع ثمن هذا أيها الكلب'، ويطلب من المحتجز أن يتوسّل من أجل حياته.
وفي الوقت نفسه، دفعت مليشيا الدعم السريع بتعزيزات إلى داخل المدينة، وتورطت المليشيا في اشتباكات عنيفة من شارع إلى شارع.
انهيار القاعدة العسكرية وبدء انتشار الفظائع
مع طلوع شمس 26 أكتوبر، كانت مليشيا الدعم السريع قد اجتاحت آخر مواقع الجيش السوداني في الفاشر واستولت على القاعدة الرئيسة في المدينة، مقر الفرقة السادسة مشاة، وذلك بعد انسحاب القوات النظامية.
ووثّقت مقاطع مصوّرة جنودًا يضحكون ويتجولون داخل المقر المهجور حاملين قاذفات قنابل، بينما ظهر لاحقًا عبد الرحيم دقلو، شقيق قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان 'حميدتي' دقلو، وهو يتفقد القاعدة العسكرية.
وتُعد قوات الدعم السريع، المنبثقة عن مليشيا 'الجنجويد' التي ارتكبت مجازر أودت بحياة مئات الآلاف في دارفور بين عامي 2003 و2005، متهمة منذ سنوات بارتكاب فظائع بحق جماعات غير عربية في أنحاء السودان.
كما أظهرت مقاطع نُشرت على الإنترنت نية مقاتلي الدعم السريع تنفيذ أعمال عنف ضد المدنيين في الفاشر.
قبل أن تسيطر مليشيا الدعم السريع على مدينة الفاشر، كانت المعلومات القادمة منها شبه معدومة لأشهر، لكن ما إن انهار الجيش السوداني، حتى بدأت خلال ساعات مقاطع مصوّرة توثّق الفظائع تنتشر على الإنترنت، منهيةً الصمت الذي خيّم على المدينة.
إعدامات ميدانية داخل مبنى جامعي ومقبرة جماعية
أحد أكثر المقاطع قسوة، والذي حلّلته وحدة 'بي بي سي' لتقصي الحقائق، أظهر آثار مجزرة داخل مبنى جامعي في الجهة الغربية من المدينة، حيث بدت عشرات الجثث متناثرة على الأرض. في المشهد، يجلس رجل مسنّ يرتدي سترة بيضاء وسط الجثث، بينما ينزل مقاتل مسلح من السلالم نحوه، ويرفع سلاحه ويُطلق رصاصة واحدة تصيب الرجل الذي ينهار على الفور بلا حراك.
يقترب جنود آخرون غير مبالين بما حدث، ليلاحظ أحدهم حركة في ساق أحد القتلى فيصرخ: 'لماذا لا يزال هذا حيًا؟ أطلق النار عليه'. ووفقًا لتقرير صادر عن مختبر أبحاث العمل الإنساني بجامعة ييل، أظهرت صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 26 أكتوبر دلائل على إعدامات ميدانية في شوارع الفاشر.
ورصد المحللون في الصور تجمعات كبيرة يُعتقد أنها 'بحجم أجساد بشرية بالغة'، لم تكن موجودة في الصور السابقة، إضافة إلى تغيرات في لون الأرض يُرجّح أنها آثار دماء بشرية.
وقال شاهد عيان تحدث إلى 'بي بي سي': 'رأينا العديد من أقاربنا يُقتلون أمامنا… جُمِعوا في مكان واحد وأُعدموا جميعًا'. كما روى شاهد آخر أنه شاهد امرأة تُقتل برصاصة في صدرها على يد أحد مقاتلي الدعم السريع، قبل أن يُلقوا بجثتها جانبًا بعد أن سلبوا متعلّقاتها الشخصية.
وبينما كانت القوة الرئيسة لمليشيا الدعم السريع تجتاح مدينة الفاشر، بقيت مجموعات أخرى من المقاتلين في أطراف المدينة، حيث نفّذوا إعدامات وحشية بحق عدد من الأسرى العزّل.
ووقعت معظم هذه الجرائم في منطقة تبعد نحو 8 كيلومترات عن الفاشر، وتُظهر مقاطع موثقة عشرات الجثث بملابس مدنية- من بينها نساء- ملقاة داخل خندق يمتد بمحاذاة الحاجز الرملي الذي أقامته مليشيا الدعم السريع حول المدينة.
وتُظهر مقاطع أخرى مشهدًا واسعًا من الدمار، إذ تشتعل النيران في الشاحنات المدمّرة، وتنتشر جثث القتلى بين المركبات المحترقة.
'أبو لولو جزار الفاشر' يرفض الرحمة و ينفذ 9 إعدامات
وتعرّف فريق 'بي بي سي' لتقصي الحقائق على أحد القادة البارزين في أعمال العنف، يُعرف على الإنترنت باسم أبو لولو، وهو قائد ميداني في مليشيا الدعم السريع. ظهر في مقطعين مصوّرين وهو يُعدم أسرى عزّل، بينما قال شاهد عيان لـ 'بي بي سي' إنه أصدر أوامر لجنوده بقتل عدد من الأبرياء، بينهم أطفال. في أحد المقاطع، حاول أحد مقاتلي الدعم السريع التدخل لمنع أبو لولو من قتل رجل جريح كان يتوسل قائلاً: 'أنا أعرفك… ناديتك قبل أيام'. لكن أبو لولو قاطع توسلاته بحركة يده قائلاً: 'لن أرحم أحدًا، مهمتنا هي القتل فقط'.
ثم وجّه بندقيته نحو الأسير وأطلق دفعة كثيفة من الرصاص أردته قتيلاً في الحال. وفي مقطع آخر، ظهر وهو يُعدم تسعة أسرى عزّل، فيما أظهرت مشاهد لاحقة جثثهم ملقاة في المكان نفسه على الأرض المغبّرة في دارفور، مصطفّة كما لو أُعدموا واحدًا تلو الآخر. وكان العديد من المشاركين في عمليات القتل يرتدون شارات مليشيا الدعم السريع، بينهم من ظهروا لاحقًا يحتفلون بالمجزرة ويصفونها بـ 'الإبادة الجماعية'.
الدعم السريع تحاول تلميع الصورة وتُتهم بإخفاء الأدلة
في الأيام التي تلت المجزرة، أقرّ قائد مليشيا الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بأن مليشياته ارتكبت 'انتهاكات'، مشيرًا إلى أن الوقائع ستخضع للتحقيق. وقال مسؤول أممي رفيع الأسبوع الماضي إن الدعم السريع أبلغ الأمم المتحدة باعتقال عدد من المشتبه بهم من عناصره.
من بين هؤلاء كان القائد الميداني أبو لولو، الذي اعتُقل بعد نشر تحقيق 'بي بي سي' الذي وثّق عمليات القتل التي نفذها.
وأظهرت لقطات منسّقة بعناية، نُشرت على القناة الرسمية لمليشيا الدعم السريع على تلغرام، أبو لولو وهو يُقتاد إلى زنزانة في سجن بضواحي الفاشر. لكن تحليلاً صادرًا عن جامعة ييل اتهم مليشيا الدعم السريع بأنها تحاول إخفاء أدلة جرائمها الجماعية.
وأشار تقرير نُشر في 4 نوفمبر/ إلى أن صور الأقمار الصناعية أظهرت إزالة أجسام يُعتقد أنها جثث من موقع شمال الحاجز الرملي الذي أقامته المليشيا ، كما رُصدت قبور جديدة قرب مستشفى الأطفال في الفاشر. ووجد فريق 'بي بي سي' لتقصي الحقائق، بعد تحليل الصور الملتقطة في 30 أكتوبر، أشكالًا بيضاء بطول يتراوح بين 1.6 و2 متر داخل فناء المستشفى، وهي مطابقة تقريبًا لطول جسد إنسان داخل كفن دفن تقليدي. وفي الوقت ذاته، بدأت مليشيا الدعم السريع محاولة تلميع صورتها إعلاميًا، إذ نشرت حسابات مرتبطة بها مقاطع تُظهر عناصرها وهم يوزعون مساعدات على المدنيين، كما بثّ مكتبها الإعلامي تسجيلات تزعم أنها توثق معاملة إنسانية لأسرى الجيش.
ورغم الحملة الدعائية على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن أفعال الدعم السريع في الفاشر أثارت موجة غضب دولية واسعة.
وأشار فريق 'بي بي سي' لتقصي الحقائق إلى أنه تواصل مع مليشيا الدعم السريع لمنحها فرصة للرد على ما ورد في التحقيق، لكنه لم يتلقَّ أي رد.


























