▪️بالأمس رشحت أخبار عن خطوة جديدة في وزارة الخارجية، تمثلت في ترشيحات مهمة شملت عدداً من السفراء إلى محطات تعتبر من أثقل عواصم القرار في المشهد الدولي. الخطوة تبدو جزءاً من إعادة ترتيب واسعة، وإعادة ضبط التموضع الدبلوماسي .

▪️أبرز الترشيحات،السفير 'عمر عيسى آدم' سفيراً للسودان في بكين. في محاولة لإعادة استثمار خبرة تراكمت عبر 13 عاماً قضاها الرجل في الصين متنقلاً بين مهمات معقدة داخل السفارة. هذا الامتداد الزمني دلالة علي حاجة الخرطوم الآن إلى دبلوماسي يعرف العقل الاستراتيجي الصيني جيداً، ويجيد لغة الإشارات التي تُقرأ في بكين لا في الخرطوم. فالصين لاعب اقتصادي وسياسي مؤثر في أفريقيا، وفي السودان تحديداً، وهي تراقب المشهد السوداني بعيون المصالح، لا العواطف. وإعادة ترشيح عمر عيسى تمثل رسالة مفادها أن ' الخرطوم تسعى إلى إعادة وصل ما انقطع' ، واستعادة قنوات التفاهم والصداقة والتنمية المفقودة بواسطة من يعي بطبيعة المزاج الصيني وتوازناته.

▪️وفي الاتجاه الآخر، يبرز ترشيح السفير 'معاوية عثمان خالد' إلى أنقرة. باعتباره 'تكتيكاً دبلوماسياً' يتناسب مع أهمية تركيا في تشابكات الأزمة السودانية. فأنقرة اليوم ليست مجرد محطة إقليمية، بل لاعب مؤثر في مسارات البحر الأحمر والقرن الأفريقي والملفات الأمنية، كما أن لها حضوراً نشطاً في توازنات مرتبطة بالحرب في السودان، سواء عبر تحالفات إقليمية أو عبر موقعها كجسر تأثير بين عدة عواصم نشطة في الملف السوداني، والسفير 'معاوية' يمتلك خبرة متماسكة تؤهله للتعامل مع هذه البيئة الحساسة، كما أن اختياره مؤشر على الرغبة في بناء حضور فاعل للسودان في أنقرة لا مجرد تمثيل ، خاصة في ظل حاجة الخرطوم لعلاقات مستقرة مع تركيا تساعدها في موازنة الضغوط الدولية والإقليمية.

▪️أما السفير 'الزين إبراهيم حسين'، فترشيحه إلى باريس يحمل أبعاداً مغايرة، خاصة إذا ما رُبط بسجله الدبلوماسي في غرب أفريقيا. فقد أمضى 'الزين' سنوات طويلة في دول فرانكفونية ترتبط عضوياً بفرنسا وتشكل أحد أهم مناطق نفوذها التقليدي. هذه الخبرة تمنحه ميزة إضافية في التعامل مع المزاج السياسي الفرنسي، لأنه يأتي من بيئة أفريقية تُقرأ في باريس باعتبارها امتداداً لنفوذها التاريخي.وكمندوب دائم للسودان لدى الاتحاد الأفريقي أكتسب معرفة دقيقة بتوازنات مؤسسة كان النفوذ الفرنسي حاضراً في بعض مساراتها. ومن ثم فإن تعيينه في باريس يبدو خياراً عملياً لمخاطبة عقل الدولة الفرنسية عبر شخص يجيد اللغة الفرنسية بطلاقة ، ومستوعب لشبكة المصالح التي تديرها باريس في أفريقيا.

▪️وفي أديس أبابا، يأتي ترشيح السفير 'عبد الغني النعيم'، وهو من الدبلوماسيين أصحاب الخبرة الثقيلة في التفاوض. نمت وتراكمت منذ مفاوصات في ملف جنوب السودان ، وهو ما أكسبه قدرة عالية على التعامل مع الملفات المعقدة بحكمة وهدوء ، كملفي 'أديس أبابا' و ' الاتحاد الأفريقي'، وبوجود دبلوماسي بمواصفات عبد الغني فيها يعكس توجهاً حاسما في عودة انشطة السودان ، وإعادة بناء نفوذ السودان وتموضعه داخل المنظومة الأفريقية بعد سنوات من التراجع.

▪️وفي الجزائر، جاء اختيار السفير 'عبد الحفيظ العوض' ليكمل مسار الترشيحات ، ورفع الاداء الدبلوماسي وتطويره في محطة تُعد سياسياً من أهم العواصم الداعمة لوحدة السودان وسيادته، لم يسُتفاد ويُستثمر ذلك بالشكل المطلوب ، ما يجعل وجود السفير 'عبدالحفيظ' ليس ترفاً، بقدر ما هو ضرورة مهنية دبلوماسية.

▪️ورغم أن هذه الترشيحات طالت عدداً من العواصم ذات الوزن، إلا أن الملاحظة الجديرة بالتوقف أن بعض المحطات الأكثر حساسية لم تشهد أي تغيير، تحديداً القاهرة و جوبا. وهما تمثلان عقدتين رئيسيتين في مشهد الحرب الراهنة، لكنهما لا تُداران عبر سفراء مهنيين من السلك الدبلوماسي، مما يحرم وزارة الخارجية من توظيف أدواتها المهنية في أهم ساحات التأثير، خاصة في ظل ضعف الأداء الذي بدا واضحاً خلال الحرب. واستمرار هذا الواقع يثير سؤالاً حول ما إذا كانت الوزارة ستتجه لاحقاً لمعالجة هذا الخلل الهيكلي الذي يقيّد فاعلية حضور السودان في أهم عاصمتين معنيتين مباشرة بتوازنات الحرب ومساراتها.

*خلاصة القول ومنتهاه*

▪️إن قراءة هذه الترشيحات بعيداً عن العناوين العامة تشير إلى أن وزارة الخارجية تحاول إعادة ضبط المشهد الدبلوماسي عبر وضع الشخصيات المناسبة في العواصم التي تحدد مسار السودان في الخارج.

▪️لكن تبقى الأسئلة الإيحائية قائمة ، هل ستنعكس هذه الخطوات على تحسين موقع السودان في مؤسسات صنع القرار؟وهل تتحول هذه الترشيحات إلى أداء فاعل يعيد للدبلوماسية السودانية وزنها المفقود؟ أم أننا سنكرر دورة التفاؤل نفسها دون أن تتغير النتائج على الأرض؟

أسئلة لا تُطرح صراح ، لكنها تظل معلّقة في ذهن كل مراقب ينتظر برهان الأداء قبل الكلمات.