تتجلى ملامح الأزمة الاقتصادية في ارتفاع لهيب الأسعار وتكدس البضائع

في الأسواق الشعبية السودانية، حيث تختلط أصوات الباعة بروائح البهارات وحرارة الشمس، تتجلى ملامح الأزمة الاقتصادية بكل تفاصيلها، فالبضائع مكدسة والزبائن يتفرجون أكثر مما يشترون، في ظل استمرار تراجع الجنيه السوداني أمام سلع تتبدل أسعارها كل يوم، فهذه الأسواق لم تعد مجرد فضاء للتجارة بل أصبحت مرآة لحياة الناس، تعكس عمق الأزمة المعيشية الخانقة في ظل التضخم والركود وغياب الاستقرار، إذ يقاوم المواطن العادي موجة الغلاء بأبسط الوسائل ليحافظ على لقمة العيش وسط واقع يزداد ضيقاً.

بائع الخضراوات المتجول في سوق الخرطوم بحري عبدالرحمن حسن يقول 'أخرج كل صباح حاملاً بضع سلال من الخضراوات، أتنقل بين الأزقة والسوق الكبيرة، لكن الزبائن اليوم يعدون على الأصابع'، مواصلاً بصوت تغلب عليه الحسرة 'كنا نبيع في اليوم ما يكفينا لنعود ببعض حاجات أسرتنا للبيت، أما الآن فتمر الساعات ولا نبيع إلا القليل، فالناس تسأل عن السعر ثم تمضي من دون شراء، وكأنهم فقدوا الأمل في أن تنخفض الأسعار يوماً'.

وحول عبدالرحمن تمتد صفوف من البسطات التي غزاها الركود، تتجاور فيها الطماطم الذابلة مع أكياس السكر التي ارتفع ثمنها 10 أضعاف خلال عام واحد، وتبدو السوق وكأنها مسرح لأزمة وطنية صامتة، فالبائع يشكو الغلاء والمستهلك يلوم ضعف الدخل، في ما يغيب الحل بين تقلبات الجنيه وغياب الرقابة، وبذلك أصبحت الأسواق الشعبية مرآة دقيقة لاقتصاد يعيش على أنفاسه الأخيرة، حيث يتبدل سعر السلع مرتين في اليوم، وتتحول معادلة البيع والشراء إلى معركة بقاء يومية.

توضح أستاذة الاقتصاد بجامعة الخرطوم هالة الطيب أن 'تراجع الجنيه السوداني لم يعد حدثاً استثنائياً في نشرات الأخبار الاقتصادية، بل تحول إلى مشهد يومي يعيشه المواطن في تفاصيل حياته، من تاجر الجملة الذي يغير تسعيرته ثلاث مرات في اليوم إلى ربة البيت التي تحتفظ بجزء من دخلها على هيئة سلع خوفاً من تآكل قيمته النقدية، فالأسعار لم تعد تستقر ليوم واحد والجنيه فقد بوصلة قيمته أمام العملات الأجنبية، وسط غياب سياسة نقدية فاعلة وتوقف شبه كامل للإنتاج المحلي'.

وتابعت الطيب أن 'تدهور الجنيه ليس مجرد نتيجة للحرب الراهنة، بل حصيلة تراكمية لأعوام من سوء الإدارة والفساد وضعف المؤسسات المالية'، مضيفة أن 'الجنيه فقد وظيفته الأساس كوسيط موثوق للتبادل في ظل الانقسام السياسي وتعدد السلطات، إذ أصبحت الكتلة النقدية خارج سيطرة البنك المركزي، وباتت السوق الموازية تمثل الجهة الحقيقية التي تحدد الأسعار، فالحرب عمقت الأزمة لأنها أوقفت حركة الإنتاج والتصدير ودفعت الناس نحو الاكتناز والتهريب، واليوم لا يثق المواطن في العملة المحلية، والتجار يسعرون سلعهم بالدولار حتى داخل الأسواق الشعبية، فهذه ليست أزمة نقد وحسب بل أزمة ثقة في الدولة نفسها'.

في حين يرى المحلل الاقتصادي سامي عبدالباقي أن 'الجنيه السوداني يعيش مرحلة موت سريري، فلا يمكن لأي عملة أن تصمد في اقتصاد يفتقر إلى الإنتاج والاستقرار، فمنذ اندلاع الحرب تعطلت الموانئ وتوقفت المصانع وتراجعت الزراعة في مناطق النزاع، بينما ازدهرت السوق السوداء للعملات وتهريب الذهب عبر الحدود، وهذا الواقع جعل الجنيه يفقد أكثر من نصف قيمته خلال عام واحد'، مردفاً أن ' بيانات الجهاز المركزي للإحصاء السوداني تشير إلى أن معدل التضخم السنوي بلغ نحو 142.3 في المئة خلال فبراير (شباط) الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، إذ وصلت النسبة في المناطق الريفية إلى 155.8 في المئة فث مقابل 123.3 في المئة داخل المناطق الحضرية، وعلى رغم تراجع التضخم قليلاً إلى 145.1 في المئة خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد أن كان 187.8 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) 2024، فإن الأسعار لا تزال مرتفعة بصورة خانقة، مما يعني أن أي تحسن في الأرقام لا ينعكس فعلياً على حياة الناس'.

وزاد المحلل الاقتصادي أنه 'في الولايات الأكثر تضرراً من النزاع، مثل شمال دارفور، فقد تجاوز التضخم الشهري 78 في المئة خلال مايو (أيار) الماضي بسبب اضطراب الإمدادات وارتفاع أسعار الغذاء والوقود، وهذه الأرقام تكشف عن أن الأزمة لم تعد اقتصادية فقط بل أصبحت أزمة اجتماعية تمس حياة المواطن اليومية وتآكل الطبقة الوسطى، لتتحول إلى تهديد حقيقي للاستقرار المجتمعي'.

في شوارع الخرطوم ومدن السودان الكبرى تنتشر العربات المتجولة التي تبيع كل شيء، من الوقود إلى الدواء وحتى العملات الأجنبية، فما كان في السابق تجارة هامشية أصبح اليوم شريان الاقتصاد الحقيقي للبلاد، ومع تراجع دور الدولة وتوقف البنوك عن تمويل الأنشطة الإنتاجية، تمدد ما يُعرف بـ 'اقتصاد الظل' ليغطي أكثر من نصف النشاط الاقتصادي في بعض المناطق، ويقول الباحث في قضايا التنمية الاقتصادية محمد عبدالكريم إن 'هذا الاقتصاد ولد من رحم الأزمة لكنه ابتلع الاقتصاد الرسمي بالكامل، إذ نجد أن أكثر من 60 في المئة من النشاط التجاري في السودان أصبح خارج الإطار الرسمي، بحسب تقديرات منظمات دولية، كما أن معظم التعاملات تجري نقداً ومن دون فواتير أو ضرائب، وهو ما يحرم الدولة الإيرادات ويغذي فوضى الأسواق، فالباعة الجائلون وسماسرة العملة وحتى تجار الذهب، أصبحوا يشكلون منظومة موازية تدير حركة السلع والنقد من دون رقابة أو تنظيم'، مضيفاً أن 'هذه الظاهرة تخلق حالاً من التكيف الموقت لكنها تحمل أخطاراً طويلة المدى، فاقتصاد الظل يمنح الأفراد فرصة للبقاء في ظل غياب فرص العمل، لكنه يدمر النظام المالي على المدى البعيد، فهو يعزز ثقافة الهرب من النظام الضريبي ويعمق الفجوة بين الدولة والمواطن، والأسوأ أن كثيراً من موارد الدولة من الوقود إلى السلع المدعومة تسرب إلى هذا الاقتصاد لتباع بأسعار مضاعفة'.

ومضى الباحث في قضايا التنمية الاقتصادية يقول إنه 'مثلاً في سوق السجانة بالخرطوم، أحد أبرز معاقل التجارة غير الرسمية، يمكن أن تجد كل ما تبحث عنه من مواد البناء إلى العملة الصعبة شرط أن تدفع نقداً، فهناك لا وجود للفواتير ولا للأسعار الثابتة، بل تتحدد قيمة كل شيء بحسب وفرة السلع وشدة الطلب وسعر الدولار في السوق الموازية، وفي الوقت نفسه يرى بعضهم في اقتصاد الظل وسيلة للنجاة من بطش الأزمة، بينما يعتبره آخرون دليلاً على انهيار منظومة الدولة نفسها، إذ لم يعد هناك اقتصاد وطني منظم بل فسيفساء من المبادرات الفردية والفوضى المحكومة بالضرورة'.

في الأحياء الشعبية لم يعد الغلاء مجرد رقم في نشرات الأخبار بل واقعاً يفرض إيقاعه القاسي على تفاصيل الحياة اليومية، إذ تغيرت أنماط الاستهلاك وتراجعت القدرة الشرائية وباتت معظم الأسر تشتري ما تحتاجه ليوم واحد فقط، خشية أن تتبدل الأسعار مع شروق اليوم التالي، فالمواطن يعيش اليوم بين رغبته في الصمود أمام الأوضاع المعيشية الصعبة، وبين إحساس متزايد باليأس من تحسن قريب، وتقول ربة المنزل آمنة موسى وهي تجلس إلى جوار صندوقها الصغير لبيع الشاي وقد لفحتها حرارة النهار، 'اعتدنا في ما مضى أن نشتري حاجات البيت للشهر بأكمله، أما حالياً فلا نجرؤ على شراء أكثر مما يكفينا ليوم أو يومين، فأسعار السكر والزيت والغاز تتغير كل أسبوع وأحياناً كل يوم، وبالتالي أصبحت المعيشة ثقيلة على الجميع، لكن لا خيار أمامنا سوى أن نصبر ونقاوم'.

الباحث الاجتماعي عبدالوهاب عبدالرؤوف قال إن 'هذا التكيف لا يعني بالضرورة استقراراً بل صموداً اضطرارياً فرضته الظروف، فالمجتمع السوداني يملك قدرة نادرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية عبر شبكات الدعم الاجتماعي والعلاقات الممتدة بين الأسر، فالموظف يعيل أسراً أخرى والجيران يتشاركون الغذاء والقرى لا تزال تحافظ على روح التعاون القديمة، وهذا الترابط هو ما أبقى المجتمع متماسكاً حتى الآن على رغم تآكل الدخل وانهيار الخدمات'.

وأردف عبدالرؤوف أن 'هذا الصمود له كلفة نفسية كبيرة، إذ يعيش الناس في حال ضغط دائم بلا يقين ولا أفق واضح، فيتحول الصبر من فضيلة إلى ضرورة ومن خيار إلى أسلوب حياة، ومع غياب السياسات الاقتصادية الفاعلة يصبح هذا الصمود اليومي هو الخيط الأخير الذي يحافظ على تماسك المجتمع'.

وختم الباحث الاجتماعي بأنه 'في هذا المشهد تغدو الأسواق الشعبية أكثر من مجرد مكان للبيع والشراء، إنها مرآة تعكس وجع الناس وصبرهم، وتلك القدرة الغامضة على المضي قدماً على رغم كل ما فقدوه'.