عندما بنَيتُ ذلك المبنى المُخصَّص لمكاتِب الشركات وللمحلّات، إعتقدتُ أنّني سأستطيع بيع جميع الوحدات. إلّا أنّ الحالة الاقتصادية المُتردّية التي ضربَت البلَد، حالَت دون إيجاد المُستثمرين، فبقيَ نصف المبنى فارِغًا، الأمر الذي أثَّرَ على حالتي المادّيّة وعلى مصداقيّتي لدى المصرِف الذي أقرَضَني المال اللازم. لِذا، بدأتُ أقبَل المُستأجرين الذين رفضتُهم في بادئ الأمر، بسبب عدَم توافر الصفات لدَيهم التي بحثتُ عنها لإعطاء صيغة أنيقة لمشروعي تليقُ بمُحيط المبنى. بدأتُ أؤجِّر الأماكن بدلًا مِن بَيعها، وهكذا تمّ فتح محلّات شعبيّة في أسفل المبنى، الأمر الذي أثارَ غضب المحلّات الموجودة في المباني المُجاوِرة، لكن ما عسايَ أفعل؟

وكانت قد استأجرَت إحدى تلك المحلّات سيّدة وولداها الراشدان ليبيعوا القطع المُستعملة للسيّارات على أنواعها. وطوال النهار، كانت تركنُ السيّارات بكثرة أمامهم، لدرجة أنّ الطريق كانت دائمًا مُزدحِمة، مِمّا جلَبَ لي المتاعِب كَوني صاحِب المكان قانونيًّا. حاولتُ التكلّم مع نجاة وولدَيها، لكنّهم لَم يُنظِّموا سَير عمَلهم. وعندما أتى الوقت لتجديد الإيجار، وأخبرتُهم أنّني سأُلغي عقدي معهم، جوبِهتُ بالصراخ والشتائم والتهديدات إلّا أنّني بقيتُ على موقفي. وهكذا هم غادروا غاضبين، واستأجَرَ مكانهم رجُلٌ هادئٌ يبيعُ الآلات الموسيقيّة ولوازمها. إطمأنَّ بالي مِن تلك الناحية، واستطَعتُ أخيرًا الاهتمام بخطيبتي الحبيبة التي عانَت كثيرًا مِن همومي ومشاكلي. فالواقِع أنّني كنتُ لا أزالُ عازِبًا بسبب نيّتي بالنجاح، وقدرتي على بناء عائلة متينة لا تحتاج لشيء أبدًا. وها أنا صِرتُ حاضِرًا أخيرًا، فتفاءَلتُ بالخير. لكن أيّ خيَر؟!؟

فبعد فترة قصيرة مِن فتَح محلّ الآلات الموسيقيّة، بدأَت تأتي سيّارات غريبة عن الحَي، وتركنُ أمام المحلّ لتحولُ دون استطاعة الزبائن الدخول إليه، ومُضايقة هؤلاء الزبائن بالألفاظ النابية والتهديد بالأذيّة لو هم عادوا ثانية.

إتّصَلَ بي المُستأجِر شاكيًا، ولَم أفهَم كيف لي أن أساعده، في حين أنّ لا دَخل لي بما يحصل، لكنّه قالَ لي إنّه رأى في إحدى السيّارات التي تقلّ هؤلاء المُزعجين، أحَد أبناء نجاة. وهو كان قد التقى بها وولدَيها حين كانوا يُفرغون المحلّ مِن البضائع يوم استلَمَ المكان، ولَم ينسَ كيف هم كانوا فظّين معه. إنزعَجتُ كثيرًا مِن ذلك الوضع، إذ أنّني فهِمتُ أنّ تلك المُضايقات ستحصل مع كلّ مَن يستأجٍر المحلّ وليس فقط مع بائع الآلات الموسيقيّة، وأنّ عليّ أن أضَع حدًّا لتلك المُمارسات.

إتّصلتُ بتلك السيّدة، طالبًا منها أن تُقنِع ولدَيها بالابتعاد عن رزقي، لأنّني في آخِر المطاف، سأضطرّ لطلَب الشرطة. لكنّ كلامي لَم يردَعها، بل زادَ مِن غضبها وإصرارها على إحداث أكبَر ضرَر ممكن بمورِد رزقي، لأنّني، بنظرها، طردُتها وولدَيها مِن دون سبب. عدتُ وشرحتُ لها أنّ ما كان يدورُ آنذاك لَم يكن مقبولًا على الاطلاق وأنّني حذّرتُهم مرارًا، إلّا أنّها بقيَت مُصِرّة وأنهَت الحديث قائلة: 'أنتَ لَم ترَ بعد ما بإمكاننا فعله'. ومِن نبرة صوتها فهمتُ أنّها جدّيّة للغاية. لذلك، قصدتُ مقرّ الشرطة وقدّمتُ بلاغًا ضدّ هؤلاء القوم. أُخِذَت أقوال بائع الآلات الموسيقيّة وباقي أصحاب المحلّات، فتمّ القبض على ولَدَيّ نجاة وحكِم عليهما بدفع مبلغ للتعويض عن الأضرار التي أُحدِثَت لصاحِب المحلّ الحاليّ، مع إنذار شديد وتعليمات بالابتعاد عن المبنى بصورة دائمة.

إرتاحَ بالي أخيرًا واستطعتُ تنظيم فرَحي مع حبيبتي، والانتقال إلى مسكننا الجميل لنبدأ حياتنا سويًّا.

ومنذ ذلك الوقت، إنقلبَت حياتنا إلى جحيم يوميّ. كيف علِموا أين نسكنُ، في حين أنّ بيتنا كان بعيدًا عن المبنى الذي شيّدتُه؟ لستُ أدري. إلّا أنّ كلّ يوم كنّا نتعرّض لمُمارسات شنيعة، بِدأً مِن إيجاد أكياس قمامة أمام الباب، مرورًا بصَبّ الدهان على سيّارتي، إلى كَسر زجاج الشبابيك بواسطة أحجار كانت تُرمى مِن بعيد... أو قريب. لَم يكن لدَيّ أيّ دليل ضدّهم، لِذا ركضتُ أركِّب كاميرات مُراقبة حول البيت. لكنّ عروستي لَم تطمئنّ، وباتَت تخافُ مِن الذهاب إلى وظيفتها، حتّى بعد أن صرتُ أُرافقُها، ولَم تعُد قادِرة على النوم، مِمّا أدّى إلى أصابتها بقلَق حادّ أجبرَها على أخذ إجازة مرضيّة مِن عمَلها.

لكن بعد أن وضعتُ الكاميرات، إختفى الجُناة فجأة، وكنتُ أعرف في قرارة نفسي أنّهم سيعودون لكن بطريقة يتفادون الظهور على الكاميرات. بعد فترة قصيرة، قرّرَت زوجتي أن تذهب إلى أهلها مِن دون أن تُعطيني موعدًا لرجوعها. عندها فهمتُ أنّني على وشَك أن أخسَرَها.

قضَيتُ بضعة أيّام مُنعزِلًا في البيت لأُفكِّر مليًّا بالذي يحدث وكيف أجِد حلًّا لمُصيبتي... ووجدتُه!

ذهبتُ في اليوم التالي إلى بائع الآلات الموسيقيّة، وعرضتُ عليه مبلغًا مِن المال مُقابِل فَسخ عقد الإيجار في غير موعده، وهو قبِلَ، ليس فقط مِن أجل المال، بل أيضًا لراحة باله. بعد ذلك، إتّصلتُ بنجاة وولدَيها وقدَّمتُ اعتذاري لهم، عارِضًا تأجيرهم المحلّ مِن جديد، وهم قبِلوا على الفور! ستقولون إنّني جبان أو مجنون، لكن إنتظروا حتّى تعرفوا ما كان في بالي!

إنتقَلَ هؤلاء المجرمون إلى المحلّ مع بضائعهم، وبدأوا بالعَمل بعد أن وعدوني بأنّهم سيتركوني وشأني، لأنّني كنتُ قد بيَّنتُ لهم أنّ نيّتي صافية تجاههم.

وبعد فترة قصيرة... بِعتُ المحلّ ومكتبيَن لِشارٍ كنتُ قد فتّشتُ عليه بواسطة معارفي، بعد رحيل زوجتي ووقوعي في حيرة مِن أمري. كان لذلك الشاري صفات مُعيّنة، صفات مفصليّة لباقي حياتي الزوجيّة والخاصّة، فنجاة وولداها لَم يكونوا ليتركوني وشأني أبدًا. وأنا مِن ناحيتي، لَم أكن مُستعِدًّا لدخول السجن إن حاولتُ الانتقام بنفسي. وقّعتُ أوراق بَيع المحلّ مع ذلك الرجُل، بعد أن أخبرتُه أنّ المُستأجرين هم أناس صعب التعامل معهم وأصحاب مشاكل، إلّا أنّ الأمر لَم يُقلِقه، بل العكس، إذ رأيتُ على وجهه بسمة تعني الكثير.

فالواقع أنّ ذلك الشاري لَم يكن أيًّا كان، بل آتيًا مِن قرى حيث لا يزال نظام القبائل قائمًا، وهو بالذات كان على رأس إحداها ويهابُه العديد. وهو أحبَّ أن يستملِك عقارات في العاصمة مِن أجل أولاده الذين لَم يتأقلموا مع حياة القرى، على عكسه.

ودَّعتُ نجاة وأبنَيها قائلًا إنّني بِعتُ المحلّ وإنّني لَم أعدُ مسؤولًا عن الإيجار، بل الشاري الجديد، وهم لَم يكترِثوا للأمر، بل فرِحوا أنّهم تخلّصوا منّي، فلا تنسوا أنّ هناك قضيّة مِن قِبَلي ضدّهم وأنّ العدالة بالمرصاد لهم.

تابعَت صاحبة محلّ قطع الغيار وولداها مُمارساتهم في الحَي، مِن إزعاج للمحلّات الأخرى وكلّ مَن وقَفَ في طريق تجارتهم... إلى حين اختفوا فجأة!

علِمتُ بالأمر مِن أحَد أصحاب المحلّات المُجاوِرة، يوم التقَيتُ به صدفة حين كنتُ أشتري الزهور لزوجتي التي عادَت إلى البيت وأخبرَتني أنّها حامِل. كان بالفعل يومًا سعيدًا، لكنّه صارَ أسعَد بعد أن أخبرَني الرجُل أنّ موكِبًا مِن السيّارات المجهولة أتى إلى الحيّ، ونزلَ منها عدَد كبير مِن الرجال المُسلّحين بالعصي، وبدأوا بتكسير واجهة المحلّ ومُحتوياته أمام أعيُن نجاة وولدَيها الذين كادوا أن يموتوا مِن الخوف. بعد ذلك، قدِمَ رجُل في الستّين مِن عمره ذو شاربَين كثيفَين، ودخَلَ المحلّ وتكلّم بهدوء مع نجاة التي هزَّت برأسها ثمّ رحلَت بصمت مع ابنَيها. في اليوم التالي، جاءَت شاحِنة وأفرغَت المحلّ. فهِمتُ في الحال أنّ الرجُل ذا الشاربَين هو الشاري الجديد، فشكرتُ ضمنيًّا أحَد معارفي الذي وجَده لي، قائلًا إنّ معه ستنتهي حتمًا متاعبي.

بعد أيّام، قصَدتُ محلّي القديم، ووجدتُ فيه شابًّا وسيمًا وعمّالًا يُغيّرون الديكور، فسألتُه مَن يكون وعلِمتُ منه أنّه ابن الشاري. فتمنَّيتُ له التوفيق وأوصَيتُه بأن يوصِل سلامي وشكري لأبيه. إبتسَمَ الشابّ وقال:

ـ يحلُّ أبي مشاكله على الطريقة القديمة!

ـ أحيانًا تكون هذه الطريقة الأنسَب والأسرَع!

حاورته بولا جهشان