اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٥
في نهاية الأسبوع الماضي، اهتزّ الوجدان السوداني على وقع جريمةٍ صادمة، كشفت – بلا مواربة – إلى أي دركٍ سحيق يمكن أن يقود الجهل حين يتحالف مع الخرافة، وكيف تتحوّل الشائعة، متى ما سكنت العقول، إلى سكينٍ في الصدر ورصاصةٍ في القلب.
كان المساعد أول محمد موسى، الشهير بالأواكس، يؤدي طريقه العادي، وواجبه المهني، حين قصد نظاميًا آخر بمقر السفارة الإريترية، وسأله – بكل بساطة وصفاء نية – عن مقر مبنى جهاز المخابرات. لم يكن في السؤال ريبة، ولا في التحية شك، فقد كان الأواكس كما عرفه زملاؤه: مباشرًا، واضحًا، مطمئن القلب.
أعطاه الجاني الوصف، وما إن أدار الأواكس ظهره متجهًا إلى وجهته، حتى باغته من الخلف، بطعنة سكينٍ مفاجئة، بلا مقدمات ولا مبررات. حاول الفقيد الدفاع عن نفسه، فأطلق رصاصة في الهواء لردع المعتدي، غير أن الجاني واصل هجومه، فأصاب يده، وأسقط سلاحه، ثم استولى عليه، وصوّبه إلى صدره، وأطلق الرصاص، نُقل على إثرها إلى مستشفى البان جديد، ثم إلى مستشفى النو.
وعند التحري، كانت الفاجعة أكبر من الجريمة نفسها.
إذ ادّعى الجاني أن الضحية، أثناء السلام والسؤال، قام بـ “سرقة وإخفاء أعضائه التناسلية”، وأنه حين تحسس نفسه لم يجدها، فاندفع للطعن والقتل. غير أن الكشف الطبي أثبت – بلا لبس – أن أعضاء الجاني سليمة، وأن ما جرى لم يكن إلا وهمًا مريضًا، وهوسًا قاتلًا، غذّته شائعة قديمة عادت لتطفو من مستنقعات الجهل.
هكذا، لم تكن الجريمة فعلًا فرديًا معزولًا، بل نتيجة مباشرة لعودة شائعة “سرقة العضو التناسلي”، تلك الخرافة التي تطل برأسها كلما أُريد إشغال الناس عن القضايا الكبرى، وصرف الأنظار عن الانتهاكات الحقيقية، وعن الدم السوداني المسفوح بلا حساب. وفي هذه المرة، لم تكتفِ الشائعة بإثارة الخوف، بل حصدت روحًا بريئة.
نودّعك اليوم يا أواكس،
وأنت – رغم سنك – كنت من أوائل من لبّوا النداء،
بلغت معسكر سركاب ضمن الكتيبة الفنية،
مرابطًا ثابتًا،
لا تشتكي ولا تتراجع،
تؤدي واجبك في صمت الرجال،
وتحمل مسؤوليتك بإخلاص من يعرف معنى الخدمة والشرف.
عانيتَ كثيرًا:
طعنةً نافذة في الصدر،
ورصاصةً قاتلة،
ومرض السكري،
ونقصًا في الأكسجين،
وضيقًا في التنفس،
حتى فاضت روحك الطاهرة في مستشفى النو،
بعد صبرٍ موجع،
لم يكن فيه إلا الرضا بقضاء الله.
رحلتَ لا لذنبٍ اقترفتَه،
بل لأنك صادفت عقلًا غائبًا،
وخرافةً متجذّرة،
فصرت شهيد هوس سحب العِدّة،
وضحية الجهل الذي يقتل
كما تقتل الرصاصة،
وربما أشد.
نشهد الله أنك كنت
طيب السيرة،
حسن الخلق،
وفيًّا لزملائك،
نظيف اليد،
صادق الانتماء،
لم تتأخر عن واجب،
ولم تساوم على شرف الخدمة.
اللهم ارحم عبدك محمد موسى رحمةً واسعة،
واجعل ما أصابه رفعةً في الدرجات وتكفيرًا للسيئات،
واجعله في عليّين مع الشهداء والصديقين.
اللهم آنس وحشته، ونوّر قبره،
واجعل قبره روضةً من رياض الجنة.
اللهم اربط على قلوب أهله وزملائه،
وألهمهم الصبر والسلوان.
اللهم احفظ السودان من الفتن ما ظهر منها وما بطن،
واحفظ عقول أهله من الخرافة،
وأرواحهم من الظلم،
واجعل الوعي درعًا،
والحق غالبًا،
والعدل سيّد الموقف.
وداعًا يا أواكس…
ستبقى ذكراك شاهدًا حيًا
على أن الجهل أخطر من السلاح،
وأن الشائعة
قد تقتل إنسانًا بريئًا
كما تفعل السكين والرصاص.


























