اخبار السودان
موقع كل يوم -أثير نيوز
نشر بتاريخ: ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٥
جاءت زيارة الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان إلى تركيا في توقيت مهم لإعادة ضبط إيقاع السياسة الخارجية دولياً وإقليمياً ، وتفتح نافذة لشراكة استراتيجية مع دولة ذات ثقل إقليمي ودولي مؤثر.
الأهم في هذه الزيارة أنها لم تُدار فقط من بوابة الدبلوماسية الرئاسية، بل جاءت متكاملة مع أداء دبلوماسي هادئ وفعّال تمثل بوضوح في دور السفارة السودانية في أنقرة والسفير نادر يوسف لاعب الإرتكاز وأحد مهندسي ملف العلاقة الذي أثمر بزيارة الرئيس 'البرهان' كخطوة اولي في مسار استراتيجي اعمق ، بما يعكس انسجامًا نادرًا بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية.
اختيار السفارة السودانية في أنقرة ليكون منبر الخطاب السياسي لم يكن بنداً بروتكولياً عابرًا. بل هو اختيار ذكي ومحسوب بعناية، بمثابة مؤتمر اعلامي من الميدان لسرد تفاصيل ينتظرها بشقف وترقب الجمهور المحلي والخارحي ، ويضع الرسالة السودانية في قلب الفضاء الدبلوماسي، لا في قاعة مغلقة ولا في منصة رسمية جامدة ومحدودة الأثر ، هنا تلاقحت الدبلوماسية الرئاسية مع الدبلوماسية المؤسسية، حيث ظهر السفير نادر يوسف بوصفه حلقة وصل فاعلة بين الدولة السودانية والنخب التركية، ومظلة تنظيمية وفكرية مهدت لخطاب تجاوز كونه حديثًا لجالية، ليصبح رسالة سياسية دولية و إقليمية بامتياز.
في خطابه، قال البرهان الكثير، لكنه قال الأهم بين السطور. حين أكد أن المبادرة التي قدمها رئيس الوزراء في الأمم المتحدة هي مبادرة الدولة السودانية، كان يعيد تصويب سردية حاول البعض تشويهها بتصويرها مبادرة فرد أو مناورة تكتيكية. هذا التأكيد يُشير الي أن الدولة السودانية – بمؤسساتها العسكرية والسياسية – تقف خلف مسار واحد، وتغلق الباب أمام أي محاولات تغبيش لتفكيك موقفها أو اللعب على تناقضاتها الداخلية.
وعندما هاجم البرهان الدور الإماراتي ونزع عنها أهلية الوساطة، لم يكن يخاطب أبوظبي وحدها، بل كان يبعث برسالة واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها أن السودان لم يعد يقبل أن تُدار أزمته عبر وسطاء طرفيين، وأن أي عملية سلام لا تستند إلى حياد حقيقي مصيرها الفشل. في المقابل، تعمد البرهان إبراز الثقة في السعودية ومصر، والإشارة الإيجابية إلى الولايات المتحدة، في محاولة واعية لإعادة تشكيل خريطة الوسطاء بما يُريد السودان لا بما أُريد له ، لا على أساس النفوذ المالي، بل على أساس المصالح المتوازنة.
لكن التحول الأهم في الخطاب، وفي الزيارة عمومًا، يتمثل في الطريقة التي أعيد بها تعريف العلاقة مع تركيا. لم تُقدَّم أنقرة كداعم إنساني أو شريك اقتصادي فحسب، بل كفاعل استراتيجي يمكن البناء عليه في مرحلة إعادة التوازن الإقليمي. حديث البرهان عن الاستفادة من التجربة التركية في التعامل مع حزب العمال الكردستاني لم يكن مجاملة، بل إشارة ذكية إلى إدراكه لطبيعة الدولة التركية: دولة تحارب التمرد دون أن تفكك مؤسساتها، وتفاوض من موقع القوة لا الضعف.
وما لم يقله البرهان صراحة، لكنه كان حاضرًا بقوة في كواليس اللقاءات، أن العلاقة مع تركيا تجاوزت مرحلة الشكوك المتراكمة منذ 2019، حين أسيء التعامل مع الملف التركي في عهد الحكومة الانتقالية السابقة. أنقرة، التي تعامل بحساسية عالية مع كرامة الدولة ومكانتها، بدت هذه المرة أكثر استعدادًا للانخراط، بعدما اتضحت لها طبيعة الأزمة في السودان بوصفها تمردًا مسلحًا مدعومًا خارجيًا، لا نزاعًا أهليًا كما رُوّج سابقًا.
هنا يظهر بوضوح أثر العمل التراكمي الذي قامت به مؤسسات الدولة، من مجلس السيادة إلى جهاز الأمن والمخابرات، مرورًا بوزارة الخارجية، في إعادة بناء الثقة مع أنقرة.
والسفير نادر يوسف لم يكن مجرد سفير ومستضيف دبلوماسي، بل شريكًا في صياغة المناخ السياسي للزيارة، بينما جاءت الدبلوماسية الرئاسية لتضع السقف السياسي العالي، وتمنح الشراكة المحتملة مضمونها الاستراتيجي.
تصريح البرهان بأن العلاقة مع تركيا ستصبح «استراتيجية مستقبلية وممتدة» لا يعني ذلك إعلان تحالف فوري، ولا انخراطًا عسكريًا مباشرًا، لكنه يعكس انتقالًا من مرحلة الجسّ والاستكشاف إلى مرحلة بناء المصالح المتبادلة، حيث يكون الاقتصاد والتجارة مدخلًا، والتعاون الأمني والدفاعي نتيجة طبيعية لاحقة ، وفق إيقاع محسوب لا يصطدم بالواقع الدولي ولا يفرط في السيادة الوطنية، بما يؤسس الي تحالف مستقبلي بشكل هادئ ومدروس .
*خلاصـة القـول ومنتهـاه :*
إن زيارة أنقرة نجحت لأنها لم تَعِد بما لا يمكن تحقيقه، ولم ترفع سقف التوقعات بلا أساس. هي زيارة وضعت السودان مجددًا على طاولة الفاعلين، وقدمت خطابًا سياسيًا متماسكًا، وربطت بين الداخل والخارج، وبين الرئاسة والوزارة، وبين الحرب والسلام. إن كانت السياسة الخارجية تُقاس بقدرتها على فتح الأبواب لا كسرها، فإن أنقرة كانت بالفعل «أول الغيث»… وما بعدها سيعتمد على حسن التخطيط المؤسسي لإدارة هذا المسار وعدم التفريط فيه .


























