اخبار الجزائر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٤ كانون الأول ٢٠٢٥
خطة غير مسبوقة لإنقاذ السلالات الأصيلة ودعم المربين وتحقيق وبائي موسع للتأكد من سلامتها
منذ قرون ظلت الخيل في الجزائر أكثر من مجرد حيوان نبيل، فهي مكون جوهري من الهوية الوطنية ورمز حضاري وثقافي ارتبط بتاريخ البلاد وموروثها الاجتماعي، وبرز حضوره في الفروسية التقليدية والمهرجانات الشعبية والرياضات الحديثة. غير أن هذا الإرث العريق يعيش اليوم على وقع تحديات متزايدة، فالتراجع الملحوظ في أعداد الخيل وانكماش عدد المربين أديا إلى إضعاف الفعل الميداني، وتقليص دور هذا الموروث في الحياة الثقافية والاقتصادية.
وتزداد الإشكالية تعقيداً مع استمرار المهرجانات والفعاليات المعنية بالفروسية بجهود تطوعية فحسب، في غياب دعم مؤسساتي كافٍ، مما يطرح أسئلة ملحة حول إمكانات الحفاظ على سلالات الخيول العديدة وسبل إنعاش دورها الاجتماعي والاقتصادي خلال المرحلة المقبلة.
وتعد الخيل في الجزائر أكثر من مجرد ثروة حيوانية، إنها رمز حي للأصالة، وعبر التاريخ الطويل للبلاد ارتبطت السلالات الخيلية ارتباطاً وثيقاً بالموروث الاجتماعي والثقافي، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من السردية التاريخية في البلاد.
ويتربع على عرش هذه السلالات الحصان البربري الذي يعد الأب المؤسس لخيول شمال أفريقيا، ويشتهر بصلابته وقدرته الفائقة على التحمل في الظروف القاسية، وهي صفات جعلته رفيقاً مثالياً للفرسان داخل الصحراء والمناطق الوعرة، ومحوراً في بطولات المقاومة.
ولم يقتصر التراث الجزائري على السلالة البربرية فحسب، بل شهدت مناطق التربية عمليات تلاقح وتهجين طبيعي ومقصود مع الحصان العربي الأصيل القادم من الشرق. هذا التزاوج أثمر سلالة فريدة هي الحصان العربي البربري، وهي سلالة مهجنة نجحت في الجمع بين القوة والقدرة على التحمل وهي الموروثة من البربري، وبين الجمال والنبل والرشاقة المكتسبة من الحصان العربي. ويشكل العربي البربري النواة الرئيسة لمعظم الخيول المستخدمة في الاستعراضات والمهرجانات التقليدية، مما يجعله التجسيد المثالي للتوازن بين الأداء القوي والمظهر الجذاب.
وتوجد في الجزائر مراكز حكومية لتربية الخيول وترويضها وتدريب الفرسان، أشهرها 'حظيرة شاوشاوة' داخل محافظة تيارت (غرب الجزائر) أكبر مركز لتربية الخيول في أفريقيا، وأول مخبر علمي عربي يزاوج بين تربية الخيول العربية الأصيلة والبربرية الأصيلة.
وامتازت منطقة تيارت تحديداً بكونها 'مهد الفروسية' بفضل خصوبة أراضيها، مما جعلها موقعاً ممتازاً لتربية الخيول العربية الأصيلة والبربرية أيضاً، مما دفع بأوائل المحتلين الفرنسيين لتأسيس 'حظيرة شاوشاوة' عام 1877، ومنذ نشأتها قبل 132 عاماً تعمل طواقمها لتطوير سائر سلالات الخيول وحفظها من الانقراض.
وتملك 'حظيرة شاوشاوة' قيمة تاريخية كبيرة مما جعل السلطات الجزائرية تصنفها ضمن المواقع الأثرية الجزائرية عام 1995، حينما قضى مرسوم تنفيذي لوزارة الحرب الفرنسية بإنشاء مركز لتربية الجياد أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962)، ولعبت تلك الحظيرة بحسب الرواة والباحثين دوراً مفصلياً في الاعتناء بالجياد العربية الأصيلة وكذا البربرية، وشهد القرن ونيف القرن من وجود الحظيرة إحرازات وتجليات بالجملة.
وتشتهر مدينة تيارت باحتضانها عدداً من التظاهرات الدورية، آخرها ذاك الاستعراض الضخم الذي اشترك فيه 700 فارس من الفرق المعروفة على المستوى المحلي كـ'فرقة الفانتازيا'، وتحوي 'حظيرة شاوشاوة' على نحو 288 حصاناً بينها 174 من الأحصنة العربية الأصيلة و68 من الجياد البربرية، وتشهد الحظيرة معدل ولادة كل عام في حدود 55 حصاناً غالبيتها عربية أصيلة.
وتؤكد وثائق تاريخية حدوث مزاوجة بين أحصنة عدة من مناطق متفرقة في الداخل والخارج، على غرار أصناف محلية كـ'الغازي' و'سيدي جابر' و'سفلة'، وأخرى استقدمت من البلاد العربية وثالثة غربية كبولونيا وروسيا وفرنسا، مما أسهم في توليد خيول جديدة، إذ تملك 'حظيرة شاوشاوة' مركزاً خاصاً بالتلقيح الجيني للخيول البربرية.
غير أن الرصيد العريق لتربية الخيل في الجزائر يشهد خلال الأعوام الأخيرة تناقص أعداد الخيل وتراجع عدد المربين، مما أضعف الفعل الميداني وحد من دوره الثقافي والاقتصادي. ولا تزال المهرجانات والفعاليات المرتبطة بالفروسية تقام بجهود تطوعية، ويحكمهم في ذلك تعلقهم بهذا التراث وحرصهم على استمراره في ظل محدودية الدعم المؤسساتي.
دفع ذلك الوضع بالنائب في البرلمان الجزائري سليمان زرقاني إلى توجيه سؤال إلى وزير الفلاحة، طالب فيه بالكشف عن الإجراءات العملية التي تعتزم الوزارة تجسيدها في إطار تنسيق مع القطاعات ذات الصلة من أجل حماية تربية الخيل وتطويرها، عبر مرافقة المربين وتأهيلهم وضمان العناية الصحية والبيطرية ودعم الفعاليات والمهرجانات التراثية.
يقول عمر. ب، وهو صاحب مركز لتربية الخيول في محافظة تيبازة، إن تربية الخيول لا تخلو من المشكلات والصعوبات وتصبح معها مهمة الحفاظ على السلالات، لا سيما الأنواع والسلالات العربية الأصيلة المهددة بالانقراض، أكثر تعقيداً.
ويوضح عمر لـ'اندبندنت عربية' أن غلاء مادة الشعير والعلف الرئيس للأحصنة، يعد التحدي الأكبر الذي يواجه مراكز تربية الخيول في الجزائر. مضيفاً أن نشاط تربية الخيول يتطلب متابعة يومية وأعباء مالية كبيرة تتعلق بتوفير الرعاية البيطرية المستمرة، لأن فقدان حصان واحد يكلف صاحبه خسائر مالية كبيرة.
وجاء رد وزير الفلاحة الجزائري ياسين وليد، على تساؤلات النائب البرلماني بالإعلان عن إطلاق مشروع وطني شامل يهدف إلى إعادة بعث وتطوير شعبة الخيول في الجزائر، وفقاً للمعايير الدولية والمحلية.
وقال الوزير في رده 'إن هذا التحرك يأتي استجابة لضرورة حماية وتطوير تربية الخيول، التي تعد من أهم الثروات الحيوانية ذات القيمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبيرة'. وأضاف أن 'البرنامج يركز على محاور تقنية حديثة ومكثفة. ومن الإجراءات العملية المتخذة تطبيق نظام التعريف الإلكتروني للخيول الأصيلة، وإجراء التحاليل النووية لضمان التتبع الوراثي، إضافة إلى حفظ وتحديث سجلات الأنساب وفقاً للمعايير الدولية'.
وكشف الوزير عن نية القطاع إعادة إدراج منحة الأمهار المجمدة سابقاً، وإطلاق عملية وطنية لـرقمنة الثروة الحيوانية وتعميم وضع الشرائح الإلكترونية على جميع فئات الخيول، بما في ذلك الحصان البربري، بهدف تحقيق جرد وضبط دقيق للثروة الخيلية.
ويشتمل المشروع أيضاً على إعادة هيكلة وتنظيم المؤسسات المعنية بتطوير الشعبة، وتعزيز آليات تسييرها ورقمنتها، مع تقديم الدعم المباشر للمربين عبر توفير الشعير العلفي والمرافقة الصحية. ولضمان الاستدامة والجودة، أكد الوزير تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتعاون مع الهيئات الدولية المتخصصة. ويهدف المشروع إلى إعداد بطاقة جينية وطنية للحصان البربري لتوثيق أصالته وتعزيز الاعتراف به دولياً.
وتخضع الخيول في الجزائر لرقابة صحية مشددة عبر تحقيقات وبائية دورية تنفذها المصالح البيطرية، بهدف الوقاية والكشف المبكر عن أية أمراض قد تهدد الثروة الحيوانية. وتشمل العملية جمع عينات الدم وفحص الخيول، وبخاصة داخل المناطق الحدودية ومناطق التربية المكثفة، إضافة إلى متابعة الخيول المشاركة في التظاهرات والفعاليات الرياضية.
وأطلقت المفتشيات البيطرية بمديريات المصالح الفلاحية أخيراً تحقيقاً وبائياً حول الوضع الصحي للخيول، بمبادرة من وزارة الفلاحة، بهدف التأكد من سلامة الخيول من أية أوبئة محتملة.
وشرع الأطباء البيطريون في أخذ عينات من دم الخيول وفحصها وتحليلها، ضمن تحقيقات وقائية تجرى بصفة دورية مرة كل عام أو كل ثلاثة أعوام، للوقوف على الحال الصحية العامة للخيول عبر مختلف المناطق.
وأكدت المفتشيات ضمن بيان لها أنه لم تُسجل أية حال مرضية حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وأن العملية تندرج في إطار الوقاية والاستباق.
ويعد هذا التحقيق جزءاً من برنامج وطني يشمل ولايات عدة، مع التركيز على البلديات الحدودية والمناطق الأكثر نشاطاً في تربية الخيول واحتضان جمعيات الفروسية.
ويقول مدير معهد العلوم البيطرية الجزائري رضا بلعلي إن تربية الخيول في الجزائر تواجهها تحديات عدة، منها التحكم في تقنيات التكاثر المسعف، والتحكم في الانتقاء والتطوير الوراثي والمراقبة الصحية، وتحديث منظومة القوانين المتعلقة بمجال تربية الخيول والتلقيح الاصطناعي.
ويضيف بلعلي، وهو أيضاً رئيس الأرضية البيوتكنولوجية للطب والتكاثر الحيواني، ضمن تصريحات خاصة أن 'التكفل بكل هذه الإشكاليات يستدعي تكاتف الجهود ما بين قطاع التعليم العالي وقطاع الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري ممثلاً في المركز الوطني للتلقيح الاصطناعي والتحسين الوراثي. ويستدعي مشاركة المديرية العامة للإنتاج الحيواني والطب البيطري'.




















