اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
انعكس الشرخ التاريخي على علاقة سلفاكير ومشار طوال مسيرة الدولة وظل انعدام الثقة يحكم تعاملهما
تشهد دولة جنوب السودان منذ استقلالها عام 2011 صراعات متجددة، منها النزاع بين الشرعية السياسية والهياكل القانونية الهشة، إذ إن محاكمة رياك مشار النائب الأول للرئيس سلفا كير دي ميارديت ليست مجرد إجراء قضائي محلي، بل انعكاس لمعادلة معقدة تجمع بين إرث الحرب الأهلية وتوازنات السلطة، واستحقاقات العدالة الانتقالية التي لم تكتمل بعد. ففي قاعة 'الحرية' جلس مشار وسبعة من حلفائه، من بينهم وزير النفط السابق بوت كانغ شول والفريق غابرييل دوب لام، لمواجهة اتهامات ثقيلة تتنوع بين الخيانة والقتل وجرائم ضد الإنسانية وتمويل الإرهاب.
هذه التهم ارتبطت بأحداث مارس (آذار) الماضي، عندما اجتاحت ميليشيات 'الجيش الأبيض' ذات الطابع الإثني المكونة من شباب قبيلة النوير قاعدة عسكرية داخل مدينة الناصر بولاية أعالي النيل، وأسفرت عن مقتل أكثر من 250 جندياً بينهم ضباط بارزون. بالنسبة إلى الحكومة، كان الهجوم دليلاً على استمرار ولاءات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، تقف خلفها قيادات سياسية وعسكرية متهمة بتقويض اتفاق السلام الموقع عام 2018. ومن هنا تحركت وزارة العدل بقيادة المستشار العام دينق أشويل أديجا لتقديم الملف إلى محكمة خاصة، مدعومة بأجهزة الأمن الداخلي ومجموعة من المحامين المستقلين.
وسرعان ما تداخل البعد القانوني للمحاكمة مع الحسابات السياسية، فقد رفضت المحكمة برئاسة القاضي جيمس ألالا دينق حيثيات الدفاع القائلة بعدم دستورية الإجراءات، مؤكدة أن الدستور الانتقالي لعام 2011 المعدل يمنحها الولاية الكاملة. وشددت على أن الحصانة تقتصر على رئيس الجمهورية وليس نائبه، وهو ما أبقى مشار تحت طائلة الملاحقة.
في المقابل، استند فريق الدفاع إلى بنود اتفاق السلام الذي نص على إنشاء محكمة هجينة برعاية الاتحاد الأفريقي، معتبرين أن اللجوء إلى قضاء محلي منحاز يقوض جوهر المصالحة الوطنية، فقد جاء مرسوم الرئيس سلفا كير خلال سبتمبر (أيلول) الماضي بتعليق مهام مشار بدعوى تهديد الأمن القومي، ليؤكد أن القضية ليست محض قانونية، بل جزء من صراع مستمر بين جناحين في السلطة، يعكسان استقطاباً إثنياً عميقاً.
تعود جذور الصراع بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين انشق مشار عن 'الحركة الشعبية لتحرير السودان'، التي كان يقودها الزعيم جون قرنق دي مابيور. وخلال عام 1991، أسس مشار مع لام أكول ما عُرف بـ'فصيل الناصر'، في تحدٍ مباشر لقيادة قرنق. ورفع الفصيل شعار استقلال الجنوب عن الشمال، لكنه خلال الوقت ذاته نسج علاقات مع الخرطوم التي تبنت استراتيجية 'فرق تسد'، فمدت الفصيل بالدعم العسكري والمالي لمواجهة الحركة الأم.
كان أبرز مخرجات ذلك الانشقاق مذبحة بور، بعدما ارتكبت قوات ناصر مجازر بحق آلاف المدنيين من قبيلة الدينكا، قبيلة كير، مما أرسى إرثاً ثقيلاً من الدم والثأر ما زال يثقل مسار المصالحة الوطنية حتى اليوم.
هذا الشرخ التاريخي انعكس على علاقة الرجلين طوال مسيرة الدولة، فعلى رغم تقاسمهما السلطة ضمن حكومات وحدة متعاقبة، ظل انعدام الثقة يحكم تعاملهما. وبعد استقلال جنوب السودان، أقال كير مشار متهماً إياه بتدبير انقلاب، لتندلع حرب أهلية دامية خلال ديسمبر (كانون الأول) 2013، حملت طابعاً قبلياً بين الدينكا والنوير، وأسفرت عن مقتل ما يقارب 400 ألف شخص وتشريد أكثر من مليوني مواطن.
أعاد اتفاق السلام الموقع عام 2018، مشار إلى منصبه كنائب أول للرئيس، لكنه لم ينفذ على نحو كامل. وتعثرت ترتيبات دمج القوات وتسريح الميليشيات، ولم تنشأ المحكمة المختلطة المقررة لمساءلة مرتكبي الانتهاكات، وتأجلت الانتخابات الموعودة مرات عدة. وهذه الثغرات أبقت بنية الدولة هشة، وأبقت الصراع السياسي محتدماً، فبدلاً من أن يكون الاتفاق إطاراً لتجاوز الماضي، تحول إلى ساحة جديدة لتصفية الحسابات، إذ استخدم كير سلطته لترسيخ هيمنته وتفكيك معسكر خصومه.
لا يختلف كير ومشار في تطلعهما إلى جنوب السودان المنفصل والمستقل عن الدولة الأم، لكن الاختلاف يكمن في تصور كل منهما لدوره القيادي. كير يستمد شرعيته من إرثه العسكري وقاعدته بين الدينكا، أكبر المجموعات الإثنية (نحو 35 في المئة من السكان)، أما مشار فيعتمد على تمثيله للنوير ثاني أكبر المجموعات (نحو 16 في المئة). ويرى نفسه وريثاً شرعياً لنضالاتهم. وهكذا، لا ينحصر الصراع في نزاع على السلطة فحسب، بل يعكس تنافساً عميقاً بين هويتين إثنيتين تتنازعان وراثة الدولة الناشئة.
يرى كثر أن هذه المحاكمة بينما تقدم باعتبارها مساءلة قانونية، لكنها في الواقع ذروة حملة انتقامية شنها الرئيس سلفا كير ومجلس شيوخ الدينكا، لتهميش رياك مشار وتشويه سمعته أو حتى إقصائه جسدياً من المشهد السياسي في جنوب السودان. وعدوها أداة للاضطهاد السياسي، تتخفى بغطاء قانوني هش. وهناك عوامل عدة أدت إلى استمرار الخلافات، أولاً يحذر المراقبون من أن القيود المفروضة على مسار المحاكمة تعزز الاعتقاد بأنها ذات دوافع سياسية، ومن غير المرجح أن تكون محايدة، بل إنها أججت التوترات الإثنية بين قاعدة مشار من النوير وأنصار كير من الدينكا. ويظل انعدام الثقة بين الرجلين عميقاً، على رغم أن كير ومشار، وكلاهما في السبعينيات، كانا جزءاً من الحركة الشعبية التي ناضلت للاستقلال. إقالة كير لمشار عام 2013 فجرت الحرب الأهلية، وما تلاها من تأجيلات متكررة للانتخابات غذى شعوراً بأن كير يسعى إلى البقاء رئيساً مدى الحياة.
ثانياً، تصنف دولة جنوب السودان بين أكثر دول العالم فساداً، إذ تحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات لنهب الثروة العامة. وكشف تقرير الأمم المتحدة الموسع 'نهب أمة... كيف أطلق الفساد المستشري العنان لأزمة حقوق إنسان في جنوب السودان'، أن أكثر من 25 مليار دولار من عائدات النفط منذ الاستقلال اختفت بفعل المحسوبية والصفقات الغامضة. هذه الدوامة المالية، المدعومة بالإفلات من العقاب، أفرغت الدولة من مواردها الأساس، وحولت النفط إلى مصدر لتمويل الولاءات السياسية بدلاً من التنمية.
ثالثاً، غياب سلطة قضائية مستقلة جعل المحاكم رهينة للنفوذ السياسي، فبدلاً من أن تكون ساحة للعدالة، تحولت إلى أدوات لتصفية الحسابات تُدار عبر قضاة ومسؤولين خاضعين للسلطة التنفيذية، هذا الانهيار المؤسسي لا يعكس ضعف البنية القانونية فحسب، بل يعمق أيضاً أزمة الثقة بين المكونات المجتمعية التي ترى القانون سيفاً مصلتاً لا مظلة للحماية.
رابعاً، لا يزال المشهد القبلي والعسكري متشظياً، إذ تتداخل الولاءات بين الميليشيات والقوات النظامية. فالسلاح المنتشر، والانقسامات القبلية المتجذرة، والتاريخ الطويل من الحروب الداخلية جعلت من أي خلاف سياسي شرارة لصراع مسلح. وفي ظل غياب مشروع وطني جامع، تستمر النخب في استغلال هذه الانقسامات كأدوات ضغط متبادلة، مما يضمن بقاء دائرة العنف السياسي مفتوحة.
تتخذ السلطة في جنوب السودان، شكلاً يتجاوز مؤسسات الدولة إلى بنية تكتل عائلي - قبلي يتجسد في دائرة ضيقة يقودها سلفا كير وصهره بنيامين بول ميل. فالمحاكمة التي يواجهها مشار ليست إلا وجهاً قانونياً لصراع تتداخل فيه روابط الدم والمصلحة، إذ تتحول الدولة إلى كارتل تديره العصبية العائلية، وتدار القوانين بوصفها أدوات انتقام.
أعيد رسم خريطة السلطة عبر سلسلة من التعيينات والإقصاءات التي بنيت على الولاء الشخصي والقرابة، فإزاحة مسؤولين من وزارة العدل وتعيين أبناء العمومة وأزواج الأقارب لم يكن إجراء إدارياً عابراً، بل خطوة لتأمين جبهة قانونية مغلقة في وجه أية معارضة. وبهذه الطريقة، يضمن كير أن تتحرك العدالة وفق إيقاع رغباته، فيما يتحول القضاء إلى واجهة لتكريس احتكار عائلي للسلطة.
قام كير وصهره بنيامين بول ميل بتطهير مسؤولين رئيسين من وزارة العدل، ممهدين الطريق لعملية اغتيال سياسي متخفية في إطار عملية قانونية. وزير العدل الحالي ابن عم بنيامين بول. والمستشار العام المعين حديثاً وزوجة بنيامين نفسها، التي عينت قبل أيام قليلة من توجيه الاتهام.
هذا التكتل يقوم على منطق يربط الولاء بالعرق والقرابة، ويستحضر تقاليد الحرب الأهلية ويعيد تدويرها في ثوب قانوني. فمشار، بما يمثله من ثقل قبلي وسياسي بين النوير، ليس خصماً عادياً، بل يعد تهديداً وجودياً لهذا الكارتل. ولذلك لا يستهدف كزعيم سياسي فحسب، بل يقدم كعدو شخصي لا بد من تحطيمه.
في جوهره، يعكس هذا الصراع انحرافاً خطراً عن مسار بناء الدولة، إذ بدلاً من أن تكون المحاكم أداة لتسوية النزاعات ضمن إطار وطني جامع، أضحت جزءاً من ترسانة عائلية تدار بالانتقائية والعقاب. والنتيجة أن مجتمع جنوب السودان يرى في كل محاكمة سياسية امتداداً لثأر قبلي، لا محاولة لتحقيق العدالة. وبهذا المعنى، فإن الاستهداف المنهجي لمشار يعيد إنتاج الانقسامات الإثنية القديمة، ويزرع الشك في جدوى أية عملية سلام أو انتخابات مؤجلة.
في قلب المحاكمة الجارية ضد رياك مشار ومساعديه السبعة، يتجاوز الجدل أطر القانون إلى حقل السياسة المكشوفة، إذ تستخدم واقعة 'الجيش الأبيض' كسلاح قضائي لتجريمه، هذا الجيش، وهو تشكيل غير منظم من شباب النوير، ارتبط تاريخياً باندفاعات انتقامية أكثر من ارتباطه بهيكل قيادي مركزي. ومع ذلك، تصور تحركاته اليوم على أنها امتداد مباشر لقرارات مشار، لتتحول إلى ذريعة قانونية تخفي استهدافاً سياسياً شخصياً.
في نظر خصومه، يقدم مشار كمهندس خفي يلوح بالجيش الأبيض كورقة ضغط في مواجهة سلطة الدولة، غير أن الوقائع الميدانية تكشف عن سياقات أعقد، اشتباكات الناصر لم تكن نتاج أوامر هرمية بقدر ما كانت انفجاراً لاحتقان مجتمعات محلية طالها القمع والانتهاكات المتكررة على يد قوات الحكومة. ومع ذلك، يُحمل الخطاب الرسمي مشار المسؤولية المباشرة، في مسعى لإعادة صياغة العنف الأهلي كجريمة شخصية.
الأمر لا يتعلق إذاً بمحاكمة قانونية بقدر ما هو إعادة إنتاج لثنائية كير - مشار التي شكلت قلب الصراع منذ عام 2013. فبينما يسعى كير لإبراز نفسه كضامن للاستقرار، تستحضر صورة مشار باعتباره 'المخرب'، لتبرير التهميش السياسي وإغلاق الطريق أمام أي طموح رئاسي منافس. المحاكمة بهذا المعنى ليست عن 'الجيش الأبيض' بقدر ما هي عن إقصاء رمز سياسي يظل قادراً على حشد قاعدة واسعة من قبيلته النوير.
يوضح تحويل هذه الحادثة إلى ملف جنائي بهذا الثقل كيف يُعاد استخدام أدوات القانون لتكريس ميزان قوى، فالمحكمة ليست فقط ساحة نزاع قانوني بل مختبر تتقاطع فيه إرادة السلطة الحاكمة مع إرث الحرب الأهلية. وفي غياب آلية مستقلة كـ'المحكمة المختلطة' المنصوص عليها في اتفاق عام 2018، ستظل العدالة مشوبة بالانتقائية، ويظل استهداف مشار عبر 'الجيش الأبيض' انعكاساً لصراع أعمق حول من يملك تعريف العنف ومن يحاسب عليه.
يبدو أن دولة جنوب السودان محاصرة بين دوامات متناقضة وإرث دموي لم يبرأ من جراحه، ونظام سياسي مأزوم يتشبث بالسلطة ومجتمع دولي متردد يتأرجح بين الأمل والخيبة. تتشابك هذه العوامل لتنتج واقعاً هشاً، تراوح فيه البلاد بين احتمالات الانفجار والانفراج دون أن تستقر على مسار واضح. فالمحاكمات المثيرة للجدل والاعتقالات التي تثير شبهة الانتقام، ووفاة شخصيات عسكرية بارزة في ظروف غامضة، كلها تعكس دينامية خطرة تعيد إلى الأذهان لحظات الانحدار الأولى خلال عام 2013. ومع أن البلاد تملك اتفاق سلام معلقاً منذ عام 2018، فإن تآكل الثقة بين الفصائل وعدم دمج القوات المسلحة وتأجيل الاستحقاقات الانتخابية يحول ذلك الاتفاق إلى ورقة شبه مجمدة، تستحضر في المناسبات أكثر مما تطبق على الأرض.
إلى جانب ذلك، تلقي الصراعات المجاورة خصوصاً الحرب السودانية بظلالها الثقيلة على المشهد، جاعلةً من جنوب السودان ساحة محتملة لتصفية الحسابات الإقليمية. إن دخول القوات الأوغندية بصيغ ملتبسة، وارتباط بعض الفصائل المسلحة بمصالح خارجية، يفتح الباب أمام تحول الأزمة من نزاع داخلي إلى عقدة إقليمية أوسع. وهو ما قد يفضي إلى فقدان الجنوب استقلالية قراره السياسي، ويزيد من هشاشة سيادته التي لم تترسخ بعد.
خلال الوقت نفسه، فإن تراخي النخبة الحاكمة عن مواجهة المعضلات البنيوية والفساد المستشري وتسييس الانتماءات الإثنية وتغول الأجهزة الأمنية يضع البلاد أمام خيار صعب، إما الإقدام على إصلاح جذري يقتلع جذور الحركة الشعبية الحاكمة من كونها أداة للهيمنة، أو الاستسلام لدوامة تفكك متدرج يقود إلى إعادة إنتاج الحرب الأهلية في صور متجددة.
وعلى رغم سوداوية المشهد لا تزال ثمة نوافذ ضيقة للأمل، فالحراك الشعبي في بانتيو وغيرها من المدن يكشف عن أن المجتمع لم يفقد تماماً إيمانه بإمكانية السلام والمحاسبة، وأن قوى مدنية ودينية لا تزال قادرة على لعب دور موازن إذا حظيت بالدعم الدولي المناسب. التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذه النوافذ الصغيرة إلى ممرات عبور نحو مصالحة وطنية حقيقية، تعترف بفظائع الماضي وتعيد بناء الثقة بين المكونات، وتفتح الطريق أمام دولة مؤسسات بدل دولة الأشخاص.