اخبار السودان
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٤ شباط ٢٠٢٥
يضع مراقبون سيناريوهات مختلفة ما بين التصعيد أو المفاوضات أو بقاء الوضع على هو عليه في المنطقة المتنازع عليها
لم يخمد الجدل حول قضية النزاع في منطقة أبيي منذ انفصال جنوب السودان، فقبل ذلك كان الخلاف حول المراعي الموسمية التي تتحرك على مساحتها قبيلتا 'المسيرية' التابعة لشمال السودان و'دينكا نقوك' التابعة لجنوب السودان، وبعد الانفصال توسع النزاع على الأرض بأن أصبح بين دولتين لم تحسما حدودهما بعد وظل ضمن القضايا العالقة.
وأخيراً أعلنت الإدارات الأهلية لقبيلة 'المسيرية' في مذكرة رفعتها للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وتسلمها ممثل بعثة الأمم المتحدة بأبيي (يونيسفا) 'رفضها القاطع للخطوات التي تقوم بها سلطات جمهورية جنوب السودان لإجازة الاستفتاء الأحادي وضم أبيي إليها'، كما أكد ممثلو الإدارات الأهلية في بيان 'أن كل القوانين السماوية والدولية تكفل لنا حق الدفاع عن حقوقنا المشروعة'.
وأوضح البيان أن 'وجود قوات الأمم المتحدة الأمنية الموقتة في أبيي ينال شرعيته من جعل المنطقة منزوعة السلاح وخالية من أي قوات عسكرية مسلحة عدا شرطة أبيي التي لم تتكون بعد، ولكنها فشلت في ذلك بشهادتها في تقاريرها وآخرها القرار رقم (2024/2760) الذي أكد وجود قوات دفاع جنوب السودان وقوات أمن جنوب السودان في أبيي وتوسيع دائرة تمددها يومياً'، كما طالبت المذكرة مجلس الأمن الدولي من خلال مسؤولياته 'بإيقاف انتهاكات دولة جنوب السودان لاتفاقات وقرارات مجلس الأمن الخاصة بأبيي'، وهنا سُلط الضوء مرة أخرى على التعقيدات السياسية والإثنية عميقة الجذور في أبيي، ولا سيما أن النزاع على المنطقة ظل نقطة خلاف رئيسة بين السودان وجنوب السودان، إذ يؤكد كل من مجتمعي 'دينكا نقوك' و'المسيرية' على مطالبات تاريخية، ويظل الاستفتاء الذي عقد عام 2013 من دون مشاركة سودانية أو اعتراف دولي مسألة متنازع عليها تهدد بإشعال التوترات.
عوامل معقدة
المتخصص في دراسات السلام والتنمية فايز جامع قال إن 'التحرك الأحادي الجانب من قبائل المسيرية بتقديم مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة من غير المرجح أن يسفر عن نتائج ملموسة في غياب التدخل المباشر من جانب الدولة السودانية، ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن صراع أبيي ليس مجرد نزاع قبلي محلي بل قضية ذات أبعاد دولية تنطوي على مطالبات سياسية واقتصادية وجغرافية مختلف حولها بين دولتي السودان وجنوب السودان، وفي الدبلوماسية الدولية تتطلب النزاعات من هذا النوع مشاركة رسمية على مستوى الدولة، إذ تتعامل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة مع الحكومات المعترف بها وليس الكيانات القبلية، ومن دون دعم الحكومة السودانية فإن مبادرة المسيرية يمكن أن يُنظر إليها على أنها تفتقر إلى الشرعية أو الثقل الدبلوماسي على الساحة الدولية'.
وأوضح جامع 'يبدو أن تحرك المسيرية رد فعل على نشر أفراد من قوات الأمن من دولة جنوب السودان في منطقة أبيي، وهو تطور قد تكون المسيرية عدته مناورة إستراتيجية لتأكيد السيطرة على المنطقة المتنازع عليها، وقد حدث هذا التصعيد في وقت انشغال الحكومة السودانية بالحرب المستمرة على مدى عامين وأدى عدم الاستقرار السياسي والفراغ الأمني الناجم عن هذه الحرب إلى الحد من قدرة السودان على تأكيد وجوده بصورة فعالة في أبيي مما أتاح لهذا التحرك في المنطقة، وربما تكون المسيرية قد أخذت على عاتقها السعي إلى جذب الاهتمام الدولي في محاولة لموازنة ما تراه تعد على مطالباتها التاريخية والإقليمية'.
وذكر المتخصص في دراسات السلام والتنمية أن 'فعالية نداء المسيرية للأمم المتحدة تتوقف على اعتبارات جيوسياسية أوسع، فقد لعبت الأمم المتحدة تاريخياً دور الوسيط في أبيي وخصوصاً من خلال قوة الأمم المتحدة الأمنية الموقتة لأبيي (يونيسفا) التي أنشئت عام 2011 للحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، ولكن المجتمع الدولي يميل إلى إعطاء الأولوية للقرارات الدبلوماسية التي تنطوي على مفاوضات رسمية بين الدول بدلاً من التدخلات المباشرة في النزاعات الإثنية المحلية'، متابعاً أنه 'من دون الدعم الصريح من جانب الحكومة السودانية فمن غير المرجح أن تتخذ الأمم المتحدة إجراءات حاسمة رداً على مذكرة المسيرية ولا سيما في ضوء العوامل القانونية والسياسية المعقدة المحيطة بنزاع أبيي'.
إجراءات استثنائية
من جهته قال الكاتب السوداني عبدالله آدم خاطر إن 'قضية أبيي من القضايا التي لا يمكن أن تعالج في إطار العمل السياسي وحده وإنما هي منطقة للتعايش والتقاء الثقافات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المشتركة بين المكونات المختلفة، وفي نهاية الأمر فإن انصهار هذه المكونات سينتج مجموعة جديدة من المواطنين، فمثلاً أفراد دينكا أبيي مختلفون عن بقية قبائل دينكا الآخرين نظراً إلى ارتباطهم القوي بالثقافات من حولهم ومنها ثقافة قبائل البقارة وثقافات الرعي والتجارة من الشمال، كما أنهم تأثروا بالتعليم الذي بدأ باكراً في المنطقة أو حتى بالنسبة إلى العلاقات الأهلية ما بين الإدارات الأهلية المختلفة'.
ومضى في حديثه أن 'أفضل النماذج التي أُسست بطريقة هادئة ومميزة كانت العلاقة التي جمعت بين ناظر المسيرية بأبو نمر وناظر دينكا في المنطقة كوال دينق ماجوك الذي شارك أبناؤه في الحياة العامة في السودان، لذلك لا يمكن النظر إلى القضية ومحاولات علاجها كأزمة بين بلدين، ويصعب إدخال المنطقة في الأزمة بين بلدين لأن المكونات في المنطقة أكبر من أي مكون عسكري أو عمل سياسي عابر يدار أمنياً بالوسائل القهرية'.
وأضاف خاطر أن 'السودان خطا خطوات جيدة نحو أن يكون التعامل بين الشمال والجنوب بعد اتفاق أديس أبابا وفق تحمل الآخر، وعلى رغم أن الاتفاق كان سياسياً وأمنياً وعسكرياً لكن أهم بند فيه هو المنتج الثقافي بأن التمازج بين الشمال والجنوب يمكن أن يكون وفق أطر أهلية ويتطور تطوراً طبيعياً'، مضيفاً أنه 'مع أن السودان وجنوب السودان أصبحا دولتين وفق اختيار سياسي ودستوري لكن مسألة أبيي ستظل عالقة كقضية خارج الإطار السياسي العسكري والأمني، فهي تحتاج إلى عمل اجتماعي اقتصادي كبير، وأبيي مستقبلاً ستكون مؤسسة على توعية عناصر المنطقة وسوقاً مشتركة لمجموعات القبائل بين الشمال والجنوب، ويمكن أن تكون هناك إجراءات استثنائية ذات طابع تنموي سياحي في المستقبل'.
وزاد، 'هذا سيجعل السودان وأبناء أبيي من دينكا أو المسيرية أو أي قبائل أخرى لديهم الريادة والمبادرة والقدرة على لم شمل منطقة واسعة من أفريقيا، على نسق الممالك السودانية القديمة مثل سلطنة سنار والفور وتقلي وغيرها من الممالك التي جمعت بين الأفارقة والعرب في شراكة اجتماعية واقتصادية وسياسية'.
السلام الهش
أسهم اندلاع الحرب السودانية في أبريل (نيسان) 2023 في أن تكون أبيي في مهب هذا النزاع حتى لو لم يطلها فعلياً، وكان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو أبلغ في يناير (كانون الثاني) 2024 قادة من منطقة أبيي التزامه تسهيل عودة آلاف من سكان المنطقة ودولة جنوب السودان العالقين في السودان، كما التقى في العاصمة الكينية نيروبي كلاً من الأكاديمي الجنوبي فرانسيس دينق ولوكا بيونق، وهما قياديان بارزان من قبيلة دينكا وينحدران من منطقة أبيي، ويُذكر أن فرانسيس دينق كتب عدداً من المؤلفات في ما يتعلق بالهوية ولا سيما أنه من أبرز الجنوبيين الذين نالوا تعليمهم بما فيه الجامعي في الشمال، ومن أشهر أعماله رواية 'طائر الشؤم' و'دينامية الهوية' و'صراع الرؤى'.
من جانبه انتقد مدير إدارية منطقة أبيي سلومة موسى يحيى المحاولات الجارية من جانب قبيلة دينكا نقوك الضغط على حكومة جنوب السودان للاعتراف من جانب واحد بالاستفتاء الذي عقد في أبيي عام 2013، ووصف هذه الجهود بأنها غير مقبولة سواء من جانب الحكومة السودانية أو مواطني أبيي، وجادل بأنها مناورات ذات دوافع سياسية تهدف إلى استغلال عدم الاستقرار الحالي في السودان بسبب الحرب، مؤكداً أن هذه الإجراءات تتجاوز الأطر القانونية الراسخة والاتفاقات التقليدية والبروتوكولات المعترف بها دولياً والتي تحكم عملية الاستفتاء.
وأكد يحيى أن الحكومة السودانية مسؤولة وحدها عن الإشراف على عملية الاستفتاء بما في ذلك وضع الإطار القانوني واللوائح وتعيين اللجان اللازمة، داعياً إلى 'احترام الاتفاقات القانونية واحترام دور الوسطاء الإقليميين بالامتناع من تأييد نتائج الاستفتاء'، محذراً من أن أي اعتراف من جانب دولة جنوب السودان من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد التوترات في المنطقة التي شهدت أخيراً استقراراً، مضيفاً أن 'تحريك مثل هذه القضايا المثيرة للجدل من شأنها أن تهدد بتقويض السلام الهش في أبيي'.
سيناريوهات مستقبلية
ونظراً إلى الديناميات السياسية والأمنية والدبلوماسية الحالية فيمكن أن تذهب القضية في اتجاهات تكشف عن سيناريوهات مستقبلية متوقعة، أولها أن يجري الضغط على دولتي السودان وجنوب السودان للدخول في مفاوضات تحت أطر قانونية واضحة برعاية وسطاء إقليميين ودوليين من الأمم المتحدة و'إيغاد' والاتحاد الأفريقي للاتفاق حول آلية مشتركة جديدة لإجراء استفتاء بدلاً من الاستفتاء السابق، ومن الممكن أن يطول أمد المفاوضات بسبب الحرب الحالية في السودان، ولكن إذا تحقق ذلك فستفضي إلى التوصل إلى تسوية تفاوضية تمنح أبيي وضعاً خاصاً للحكم الذاتي مع إدارة مشتركة من قبل كل من السودان وجنوب السودان، وتشجع الحوافز الاقتصادية مثل تقاسم عائدات النفط.
وأما السيناريو الثاني فهو أن تستمر دولة جنوب السودان بالتمسك باستفتاء عام 2013 واستمرار موقف السودان الرافض له مما سيؤدي إلى تصاعد التوترات بين 'دينكا نقوك' و'المسيرية' ويهدد بمزيد من الصراع في البلدين، والثالث أن يستمر وضع أبيي على ما هو عليه تحت إشراف 'يونيسفا'، وقد تتوسع إلى إشراف دولي خصوصاً مع إصرار دولتي السودان وجنوب السودان على موقفهما من عدم تقديم تنازلات، وفي هذه الحال ستكون المنطقة متأرجحة بين هدوء نسبي برعاية دولية ونزاعات دورية تتأجج وفقاً للظروف في المنطقة نفسها والمحيطة بها، وعلى رغم استبعاد دخول الدولتين في نزاع عسكري في المنطقة بسبب مشكلاتهما الداخلية وعدم رغبتهما في تشتيت قواتهما العسكرية في حرب أخرى، لكن يمكن حدوث ذلك إذا أحس أي من قادة البلدين بأنه ليس أمامهما ما يخسرانه، وتؤكد التحديات المستمرة المحيطة بقضية أبيي صعوبة التوصل إلى حل مقبول للطرفين لوضع المنطقة، كما أن الإجراءات أحادية الجانب تخاطر بتعميق الانقسامات بدلاً من تعزيز الحل المستدام، وعليه فإن الاعتراف بالحقوق لدى كل من مجموعتي قبائل 'المسيرية' و'دينكا نقوك' ربما يسلك مسار الضمانات القانونية الذي سيكون طويلاً، إضافة إلى أنه محفوف بالتعقيدات السياسية والاقتصادية والقبلية والجغرافية.