لايف ستايل
موقع كل يوم -في فن
نشر بتاريخ: ٨ كانون الثاني ٢٠٢٥
قبل 3 سنوات، قدم المخرج الأمريكي شون بيكر فيلم 'صاروخ أحمر' Red Rocket عن ممثل أفلام جنسية يفقد نجوميته في سوق الصناعة ويعود إلى مدينته، لكنه غير مرحب به، فيبدأ في استقطاب فتاة لتكون بوابته للعودة لعالمه مرة أخرى.
وفي هذه المرة يعود المخرج بيكر بفيلم 'آنورا' Anora من تأليفه وإخراجه، والذي حصد سعفة كان الذهبية خلال الدورة الماضية، وإذا كان صاروخ أحمر عن ممثل أفلام جنسية، فإن آنورا عن فتاة أمريكية تعمل في أحد نوادي التعري، ولا تمانع من إقامة علاقات جنسية خارج أسوار النادي، طالما إن هناك مقابلًا ماديًا يساعدها على تكاليف الحياة.
تعاطف شون بيكر
يبدو جليًا اهتمام شون بيكر بهذا العالم، وتعاطفه مع العاملين فيه، ليس النساء فقط، ولكن حتى الرجال كما اتضح في فيلمه صاروخ أحمر.
تجسد دور البطولة بأداء مبهر ومميز الممثلة ميكي ماديسون في دور آنورا، ورغم إنها تفضل اسم 'آنى'، فإن الفيلم يحمل الاسم الأول، في إشارة قد تكون مدخلًا لفهم الفيلم، فكل شيء يتواطؤ ضدها، حتى إن الفيلم يحمل الاسم الذي لا تحبه.
سرد محكم ونقلات نوعية.
ورغم ما يبدو إن مدة الفيلم طويلة ومشاهده معادة ويمكن اختصارها لنصف المدة تقريبًا، فالأمر عكس ذلك ويخلو من الملل أو الرتابة أو حشو المشاهد، فقد كان شون بيكر ممسكًا تماما بخيوط سرده سواء في الكتابة أو كصورة على الشاشة.
الفيلم ليس 3 فصول بل يبدو كأنه 3 قصص، ليست على مستوى الأحداث فقط، لكن حتى على مستوى النوع الفيلمي، يتنقل بينها شون كتابة وإخراجًا.
رومانسية مفعمة بالحيوية
الفيلم يبدأ بجزء رومانسي كوميدي مليء بالحسية، بتداخل بين قصة سندريلا وروميو وجوليت لكن دون أن نكون أمام أي من القصتين بحذافيرها ولا حتى معالجة جديدة لهما، هي مجرد ومضة من كل قصة، كان لا بد أن يأخذ هذا مساحته على شريط الفيلم، فالتغير وحجم النقلة التي حدثت في حياة آني ليست بالبسيطة، فقد تحولت أولًا من فتاة تجني القليل، إلى جني الكثير من الأموال بالإضافة إلى حياة سعيدة مرفهة، ورغم إن الشاب الروسي إيفان يبدو أنه يعيش في حالة سعادة مستمرة بسبب المخدرات والجنس وكل شيء آخر يرغب فيه، فإن دخول آني حياته نقل سعادته إلى مستوى آخر، حتى إنه اكتشف وجهًا آخر لممارسة الجنس بفضل الضيفة الجديدة في حياته، فلمَ لا تكون زوجته، ويحصل على الجنسية وليبارك الرب أمريكا.
كان هذا فصلًا مفعومًا بالحيوية والنشاط حتى على مستوى الصورة والإضاءة والألوان المبهرة، وكأننا إزاء فيلم رومانسي كوميدي.
تحول في النوع الفيلمي
لكن مع الفصل الثاني من الفيلم يتحول لفيلم أكشن كوميدي/ أو طريق كوميدي، ليس هدفه فقط البحث عن إيفان، وإلا كان من الممكن اختصاره في 10 دقائق، لكنه فيلم وحدث كبير هدفه إعادة ترتيب الفوضى بالنسبة لعائلة، وعلى جانب آخر تمسك بأطراف الحياة الرغدة التي تضييع من آنورا ليس على المستوى المادي، لكن أيضًا على مستوى الحب وعدم استغلال جسدها لأول مرة.
الفيلم في فصله التاني يقدم عوالم كتيرة في نيويورك خلال رحلة ممثليه في البحث عن إيفان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فهناك طرفا الصراع يحاولون إعادة ترتيب الفوضى، الذين يعملون عند رجل الأعمال الروسي والد إيفان، في محاولة قد تبدو يائسة للحفاظ على مصدر رزقهم، هذا الرزق الذي جعل أحدهم يترك الكنيسة وسط مناسبة دينية، أما آني فتحاول أن تكذب نفسها بإن الزوج تخلى عنها بهذه البساطة، لحظات ثقيلة مرت عليهم وهم يبحثون، وكان لا بد أن يورطنا صناع العمل مع هذه الساعات الثقيلة التي لا تمر بسهولة.
لم يكن لهذا الفصل أن يمر سريعًا، فهو بأشبه بأفلام الليلة الواحدة، التي يمر فيها الوقت بطيئًا جدا ومليئا بالأحداث، ورغم مأساويته فإن شون بيكر اختار أن يقدمه بشكل كرتوني في كل شيء، بدءا من الشجار الكوميدي الذي يشبه عالم توم وجيري مرورًا بطريقة البحث بشكل تقليدي، ووصولا إلى المفارقات التي تحدث في الرحلة، ونهاية في المحكمة، لكي تنتهي الفوضى، التي أشار لها أحد العاملين لدى رجل الروسي، حين طلب من المسؤولة عن تنظيف البيت، بأن تعيد ترتيبه لإنهاء الفوضى التي حدثت به، فليس مقصود مجرد تنظيف البيت.
تراجيديا الفقراء
ثم يصل الفيلم لمحطته الأخيرة أو إلى فصله الميلودرامي، بعد نهاية الحلم، الحلم الذي تودع فيه آني نيويورك غير التي اعتادت عيها، ولاس فيجاس التي كُتبت فيها أكثر فصول حياتها سعادةً.
يغزل في هذا الفصل شون بيكر قصة حب جديدة تولد من رحم المعاناة، يفرد فيها المساحة لبطلته الرئيسية، وإيجور، أحد العاملين لدى رجل الأعمال الروسي، الذي وقع في حب آني، لكنها تنظر له على أنه ممثل لهؤلاء الذين انتزعوا منها كل شيء، أنها لا تدرك أنهما وجهان لعملة واحدة في هذا العالم، فيلم بين اثنين من المهمشين في هذا المدينة القاسية، رغم العداوة الظاهرية بينهما التي خلفتها مصلحة الأغنياء.
يذهب بنا الفيلم إلى ميلودراما معبئة بالمواجهات، قصة حب من قلب هذا الصراع، أو كأن هذا الصراع خُلق من أجل هذه اللحظة، لكن أهم ما في هذا الفصل، بل ربما أهم ما في هذا الفيلم، هو تمهيد هذا الجزء لمشهد النهاية، الذي يعد مشهدًا ونهاية إيقونة.
يتعاطف إيجور مع اني ويعيد لها خاتم الزواج الذي سلب منها، فتشكره هي بالطريقة التي لا تعرف غيرها وهي الجنس، ثم تضربه وكأنه ممثل عن عائلة إيفان، ثم تعبر له عن الامتنان وتظهر له ضعفها.
إن نهاية فيلم آنورا هو واحد من المشاهد الأيقونة التي ستخلد طويلا في تاريخ السينما، إنه مشهد شاعري رغم ما يبدو من حسية فيه.
فإذا كان الحب الأول من رحم الانطلاق والسعادة فإن الحب الثاني من رحم المعاناة والماساة. يستحق هذا الفيلم، ما حدث في مهرجان حين صفق الحضور بعد نهايته قرابة العشر دقائق، وإذا كان قد صُنف في جوائز جولدن جلوبز على أنه فيلم كوميدي، فهي بالتأكيد كوميديا سوداء.
