لايف ستايل
موقع كل يوم -مجلة سيدتي
نشر بتاريخ: ٣ حزيران ٢٠٢٥
في أحدث أفلامه، المخطط الفينيقي The Phoenician Scheme (2025)، يعود المخرج ويس أندرسون إلى الشاشة بأسلوبه البصري المحبب والمميز، حيث التناظر الصارم، والألوان الهادئة، والحوار الجاف، والتفاصيل الدقيقة التي تحوّل كل لقطة إلى لوحة فنية. لكنه يعود أيضًا بالأسئلة ذاتها التي تُثار كل مرة: هل لا يزال يسعى إلى مغامرات فنية جديدة؟ أم أصبح أسيرًا لصورة صنعها لنفسه؟ وهل يكفي الجمال الشكلي وحده لصنع فيلم يُحفر في الذاكرة؟
شاهدت الفيلم في مهرجان كان السينمائي الـ 78 خلال تغطيتي فعاليات المهرجان لـ'سيدتي'، وصفقت كثيراً في نهاية الفيلم للإهداء الجميل الذي ذيل به ويس أندرسون فيلمه إلى روح المهندس اللبناني فؤاد مخايل معلوف، والد زوجته - جمان معلوف- الكاتبة اللبنانية المعروفة، حيث كتب أندرسون على الشاشة في نهاية الفيلم: 'في ذكرى فؤاد مخايل معلوف.. وُلِدَ في بيت لحم، ومات في لندن، وعاش في ظل أشجار الأَرز في لبنان'.
الحبكة: خطة رأسمالية ملفوفة بورق فني ملوّن
يروي الفيلم قصة زازا كوردا (بينيسيو ديل تورو)، صناعي ثري ومثير للجدل، نجا من ست محاولات اغتيال – كلها في حوادث طيران. بعد نجاته الأخيرة، يُقرر توريث إمبراطوريته المالية لابنته المنسية ليزل (ميا ثريبلتون)، متجاوزًا أبناءه الثمانية، في لفتة غير متوقعة تعيد الاتصال العاطفي بين الأب وابنته.
يشرع كوردا مع ليزل، وسكرتيرها النرويجي بيورن (مايكل سيرا)، في تنفيذ 'المخطط الفينيقي' – شبكة استثمارات ضخمة في دولة شرق أوسطية خيالية، تتضمن التعدين، والصيد، والبنية التحتية، وتقوم على استغلال العمالة والتلاعب الاقتصادي. ورغم تعقيد المشروع على الورق، إلا أنه في الفيلم لا يتعدى كونه ذريعة لاستعراض طاقم التمثيل العالمي ومشاهد الحوار السريع والعبثي من دون بذل أي مجهود حقيقي من كاتب السيناريو الذي هو ويس أندرسون بنفسه، في جعل المشاهد يشعر بنوع من التفاعل الحقيقي تجاه مسألة إنجاز هذا المخطط من عدمه.
شخصيات كاريكاتيرية بأداء متفاوت
طاقم التمثيل، كما هو معتاد في أفلام أندرسون، مكوّن من مجموعة لامعة من النجوم الجدد والمخضرمين. بينيسيو ديل تورو يُقدّم أداءً مدهشًا من حيث الجدية والانضباط، لكنه يبدو غير متوائم تمامًا مع اللمسة الهزلية ”الأندرسونية”. أسلوبه الواقعي يتعارض مع النغمة المسرحية المفرطة التي يعتمد عليها الفيلم.
في المقابل، تلمع الممثلة الشابة ميا ثريبلتون بأداء هادئ وعميق يُضفي على الفيلم بعدًا إنسانيًا كان في أمس الحاجة إليه، مقدمةً واحدة من الشخصيات التي سوف تجعل والدتها -النجمة كيت وينسليت- فخورةً بها بلا شك.
مايكل سيرا يقدّم شخصية بيورن لوند، المعلم وعالم الحشرات، بأسلوب مرح يشكل توازنًا ضروريًا وسط الجدية المصطنعة التي تحيط بالشخصيات الأخرى. كما يضم الفيلم ظهورات خاطفة ومحدودة لكل من توم هانكس، براين كرانستون، سكارليت جوهانسون، ريز أحمد، بنديكت كامبرباتش، جيفري رايت، وويليم دافو، لكنها غالبًا ما تكون أقرب إلى لقطات استعراضية من كونها شخصيات درامية حقيقية، وهو ما قد يشكل نوعاً من الخيبة لبعض جمهور السينما الذين توقعوا من تواجد نجمين بحجم توم هانكس و براين كرانستون علي وجه الخصوص، فرصةً تمثيليةً هائلة، ربما ضاعت من خلال ظهورهما في مشهد لا يتعدى زمنه علي الشاشة ٥ دقائق يلعبان خلاله كرة السلة بشكل هزلي لحسم قرار هام في مصير مخطط كوردا الفينيقي، ظهور لم يخل من الطرافة والتميز لكنه بالتأكيد لن يكون مشبعاً لجمهور النجمين.
البراعة البصرية... مجددًا ولكن
من الناحية البصرية، لا يخيب أندرسون الظن. كل مشهد في المخطط الفينيقي مصمم بدقة هائلة: من الحقيبة الجلدية المطرزة إلى غلاف الكتب المزخرفة، إلى مواقع التصوير المصنوعة يدويًا بتقنية دقيقة ومذهلة تُثري الخلفية الفنية للفيلم.
لكن هذه العناصر، رغم جمالها، لا تكفي لإنقاذ فيلم يفتقر إلى قلب حقيقي. الجماليات هنا ليست في خدمة القصة، بل تبدو كأنها الهدف بحد ذاتها.
فكاهة حاضرة... بلا حرارة
الحوارات الذكية والنكات الجافة التي تميز أندرسون حاضرة بقوة، وبعض المشاهد تنجح في إضحاك المشاهد فعلًا، خصوصًا مباراة كرة السلة العبثية بين توم هانكس وبراين كرانستون، أو الهواجس الدينية التي تطارد زازا في شكل رؤى يؤديها بيل موراي. ومع ذلك، تبقى الفكاهة سطحية، لا تُترجم إلى تعاطف حقيقي مع الشخصيات، ولا تُعزز الروابط بينها.
العلاقة بين زازا وابنته، التي يُفترض أن تكون محورًا عاطفيًا للفيلم، لا تنمو بشكل يُقنع المشاهد. هناك لحظات واعدة، لكنها تضيع وسط الإيقاع المتسارع والتركيز الزائد على الشكليات.
ورغم أن المخطط الفينيقي أفضل من بعض أعمال أندرسون الأخيرة مثل مدينة الكويكب Asteroid City والوفد الفرنسي The French Dispatch من حيث التركيز السردي، فإنه لا يبلغ ذروة أعماله مثل فندق بودابست الكبير The Grand Budapest Hotel أو عائلة تيننباوم الملكية The Royal Tenenbaums. يحاول أندرسون هنا أن يُعيد شيئًا من الدفء الذي افتقدته أفلامه مؤخرًا، لكنه لا يذهب بعيدًا بما يكفي.
يُلاحظ تراجعًا طفيفًا في الإفراط البصري مقارنة بالأعمال السابقة، وهو أمر محمود، لكن التكرار الأسلوبي لا يزال يهيمن على التجربة. وكأن أندرسون يصنع 'فيلمًا من أفلام أندرسون' لمجرد الاستمرار، لا لأنه وجد شيئًا ملحًا يريد قوله.
خاتمة: فيلم جميل... لكنه فارغ
الخطة الفينيقية عمل أنيق، مسلٍ، ومصنوع بحرفية عالية، لكنه يفتقر إلى العمق. هو فيلم مليء بالمواهب والمشاهد المبهرة والنكات الذكية، لكنه بلا روح حقيقية. لا يحمل التوتر أو العاطفة التي ترفع الفيلم من مجرد تجربة بصرية إلى قصة تُعاش وتُحسّ.
هو ليس فيلمًا سيئًا – بل هو عمل جيد ضمن حدود المتعة الخفيفة – لكنه ببساطة لا يُحدث الأثر الذي يُفترض بفيلم من هذا المستوى الفني أن يُحدثه. في النهاية، يبدو أن أندرسون، رغم عبقريته البصرية، بحاجة إلى أن يُبطئ قليلًا، وأن يعود إلى كتابة القصص التي تستحق أن تُروى، لا فقط أن تُزخرف.
التقييم النهائي:
(3 من 5)