لايف ستايل
موقع كل يوم -ال عربية
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
حين رأيتُ جارتنا العجوز وأنا في طريقي إلى عمَلي، جالِسة لوحدها على مقعد محطّة انتظار الحافِلة، ألقيتُ عليها التحيّة وسألتُها أين هي ذاهِبة في ساعة مُبكِرة مِن النهار. عندها نظرَت إليّ باندهاش وأجابَت:
ـ لستُ ذاهبة إلى أيّ مكان! ما هذا السؤال الغريب!
ـ أعذريني، سيّدة هدى، لكنّكِ جالِسة في محطّة الحافِلة!
ـ آه... للحقيقة لا أعرِف أين أنا بالتحديد... مشيتُ كثيرًا طوال الليل ولكثرة تعَبي جلستُ هنا.
ـ يا إلهي! تعالي معي إلى بيتكِ!
ـ وهل تعلَمين أين أسكن؟
ـ أنا إلهام، جارتكِ! ألا تتذكّريني؟!؟
ـ دعيني أنظر إلى وجهكِ... آه... أجل، لقد رأيتُكِ مِن قَبل لكن أين؟
أخذتُ العجوز مِن ذراعها ومشينا سويًّا حتّى المبنى، وأوصلتُها إلى الشقّة حيث تسكن مع ابنها وكنّتها وولدهما. فتحَت لي الكنّة وصرخَت حين رأت حماتها: 'أين كنتِ؟!؟ هل فعلتِها مُجدّدًا؟!؟ هيّا أدخلي بسرعة قَبل أن يستيقِظَ ابنكِ ويراكِ، فهو سيغضب كثيرًا منكِ!'. دخلَت العجوز وقالَت لي الكنّة بصوت خافِت: 'المسكينة... هي خرِفة ويحصل أن تخرج لوحدها وتمشي في الشوارع. شكرًا لإعادتها'. بقيتُ واقفة لوحدي بعدما أقفلَت المرأة بابها أُفكِّر بالذي حصَل، فكنتُ أعرِف العجوز منذ سنوات، وأراها على الأقلّ مرّة في الأسبوع في المبنى أو عند البقّال أو الجزّار وهي لَم تبدُ أبدًا لي خرِفة، بل كنّا في كلّ مرّة نتبادَل الأحاديث، وتسألني عن عمَلي كمُمَرِّضة في المشفى وعن أمّي وأخوَتي. خرجتُ مِن المبنى لأقصد عمَلي وأنا مهمومة، لكنّ المرضى أنسوني تلك الحادِثة، فعدتُ مُنهكة في المساء لآخذ حمّامًا ساخِنًا وأنام نومًا ثقيلًا.
في الصباح، أثناء تناولي الفطار مع والدتي سألتُها عن حالة العجوز، فأجابَتني أنّها سيّدة مُتوازِنة وطيّبة، وما هو أهمّ أنّها لَم تظهَر عليها أبدًا علامات الخرَف حتّى البسيطة منها.
في اليوم التالي رحتُ أسأل عن السيّدة هدى لأنّني كنتُ في إجازتي الأسبوعيّة، وأدخلَتني الكنّة وهي تتذمَّر مِن حماتها لخروجها لوحدها في الصباح الباكِر حين وجدتُها، وأعربَت عن قلَقها حيال الوضع الذي كان لا بدّ له أن يتفاقَم:
ـ ماذا أفعَل لو أنّ سيّارة دهسَتها؟ ماذا أقول لابنها؟
ـ عليكِ إذًا إقفال باب الشقّة بالمفتاح. لكن قولي لي، منذ متى بدأَت تظهر عليها علامات الخرَف؟
ـ منذ فترة... سأفقدُ عقلي منها ومِن تصرّفاتها!
ـ لكنّها بدَت لي ولأمّي في حالة عقليّة صحيحة في آخِر مرّة التقَينا بها!
ـ حالتها تسوء بسرعة، صدّقيني!
دخلَت الحماة في تلك اللحظة فسكَتنا، وجلَسَت معنا بعدما ألقَت التحيّة عليّ وسألَت عن أمّي بالاسم. ثمّ طلبَت مِن كنّتها أن تُحضِّر لنا القهوة، وعندما دخلَت هذه الأخيرة المطبخ، قالَت لي العجوز:
ـ لقد سمِعتُكما تتكلّمان عنّي... لا تُصدّقيها فأنا وعقلي بأحسن حال!
ـ ولماذا تقول هكذا أمور عنكِ إذًا؟
ـ تُريدُ التخلّص منّي بوضعي في مؤسّسة خاصّة!
ـ لكنّكِ بالفعل خرجتِ مِن البيت لوحدكِ ورحتِ تتوهين في الشوراع، فأنا مَن وجَدتُكِ عند موقف الحافِلة!
ـ للحقيقة، لا أتذكّر أبدًا كيف صرتُ في الشارع لوحدي ولا أعلَم كيف لَم أعُد أجِد طريقي، فتلك الشوارع مألوفة لي تمامًا!
ـ أظنُّ أنّ عليكِ رؤية طبيب... أنا لا أقولُ إنّكِ خرِفة، بل قد تشتكين مِن حالة صحّيّة تسبَّبَت لكِ بالنسيان.
ـ أنا بألف خير! أنظري واستمعي لي! إنّها هي! أنا مُتأكِّدة مِن ذلك.
دخلَت الكنّة مع القهوة فسكتَت الحماة وغيّرَت الموضوع بسرعة. مكَثتُ مع المرأتَين لفترة، ثمّ عدتُ إلى شقّتنا حيث أخبَرتُ أمّي عمّا جرى. هي طلبَت منّي عدَم التدخّل في أمور غيرنا الخاصّة لكنّني لَم أُطاوِعها، فشيء في داخلي قالَ لي إنّ الموضوع خطير.
وبعد يومَين، سمِعنا طرقًا قويًّا على باب شقّتنا، ووجدنا العجوز واقفة أمامنا وسط الليل وهي تبكي وتسأل أين ومَن هي. أدخَلناها بسرعة وجلَبنا لها كوبًا مِن الماء، فسألتُها:
ـ كيف عرفتِ أنّني أسكنُ هنا؟
ـ لستُ أدري، فذلك هو الشيء الوحيد الذي أتذكّره. مَن أنا؟
ـ أنتِ السيّدة هدى وتسكنين في المبنى مع ابنكِ وكنّتكِ وحفيدكِ.
ـ لا أُريدُ العودة، هل لي أن أنام عندكم؟
إحتَرنا لأمرنا، فالمسكينة بدَت لنا حقًّا ضائعة وخائفة، فركضتُ أطرق باب جيراننا لأُطلِعهم على مكان العجوز. فتَحَ لي ابنها الذي استفاقَ على صوت طرقاتي، واستغرَبَ أنّ أمّه ليست موجودة في البيت. ظهرَت الكنّة وبدأَت تشكو مِن هروب حماتها فقلتُ لها غاضِبة: 'ألَم أقُل لكِ أنّ تقفلي الباب بالمفتاح؟!؟'. سكتَت المرأة ولَم تجِد ما تقوله، فعرضتُ على الابن أن تبيتَ أمّه عندنا كَي لا نزيدُ مِن ضياعها، فأسرعَت الكنّة بإقناعه بالقبول.
لدى عودتي إلى شقّتنا، كانت أمّي قد وضعَت العجوز في السرير، وتُساعدها على النوم بإخبارها قصّة تُروى للأطفال. لكنّ تلك السيّدة فتحَت عيناها ونظرَت إليّ بغضب واضِح قائلة: 'لستُ خرِفة! لا أدري ما يحصل لي في الأواني الأخيرة، لكنّ عقلي واعٍ لأقصى درجة، صدّقيني! صدّقوني! بالله صدّقوني!'. شعرتُ بالأسف حيالها، وطمأنتُها بأنّني أُصدِّقها لكنّني لَم أكن مُقتنِعة تمامًا.
إلّا أنّ مسألة عدَم إقفال الباب ليلًا مِن قِبَل الكنّة شغلَت بالي، فكان مِن الواضح أنّها لا تُبالي كثيرًا إن هربَت حماتها مِن البيت وحصَلَ مكروه لها. هل يعقَل أن...
لَم أنَم طوال الليل، وبقيَت أمّي تحثُّني على النوم وعدَم التدخّل في شؤون جيراننا، لكنّني كنتُ مُصِرّة على معرفة الحقيقة. نهضتُ فجأة مِن السرير واتّصلتُ بمُمرّضة زميلتي التي كانت تعمَل في تلك الليلة في المشفى، وطلبتُ منها أن تُرسِل لنا مَن بإمكانه أخذ عيّنة دَمّ. طلبتُ منها أن تقولَ إنّ سَحب الدمّ هو طلَب خاصّ لوالدتي وأن تُبقيَ الأمر سرّيًّا.
وصَلَ المُمّرِض ليأخذ عيّنة الدمّ، فقلتُ له إنّ العجوز الموجودة في غرفة النوم هي المقصودة وليس أمّي، فاستغربَ الأمر. شرَحتُ له أنّني أشكُّ بأنّ أحَدًا يُخدِّر السيّدة هدى، وأريدُ أن يُحلِّل دمها بحثًا عن أيّ مُخدِّر أو دواء بإمكانه إحداث تلك العوراض. أخبرتُه القصّة بأكملها وهو فهِمَ أنّ الأمر خطير، فسحَبَ عيّنة مِن الجارة التي تجاوبَت معنا بعدما قلتُ لها إنّ نسيانها قد يكون نتيجة فقر دمّ، وطلبتُ طبعًا منها عدَم إخبار ابنها أو زوجته بالأمر بتاتًا.
أعَدتُ العجوز إلى أهلها في الصباح، وقلتُ للكنّة وللابن إنّني سأُحمِّلهما المسؤوليّة إن خرجَت العجوز مِن البيت لوحدها، لأنّ بإمكانهما إقفال الباب بالمفتاح لِمَنع حدوث ذلك. كنتُ جدّيّة للغاية وهما تجاوَبا معي خوفًا منّي.
لَم يحدُث شيء يُذكَر في الأيّام التي تلَت... إلى وقت ظهور نتائج فحص الدمّ. كنتُ في عمَلي، وأعطوني النتائج التي تُبيِّن تمامًا وجود مادّة مُخدِّرة قويّة تُسبِّب بالهذيان والضياع وفقدان الذاكِرة لفترة مِن الزمن. خطَرَ ببالي طلَب الشرطة على الفور، لكن ماذا كان سيكون مصير السيّدة هدى؟
لِذا قصَدتُ الابن في موقع عمَله وأخبرتُه كلّ ما أعرفُه مُضيفةً:
ـ إسمَع... لدَيكَ حلّان: إمّا أن توقِف زوجتكَ عمّا تفعله بالطريقة التي تختارها، وإمّا أن أُبلِّغ عنكما... القرار هو قراركَ. لكن إيّاكَ أن تظنّ أنّني سأظلّ صامِتة حيال ما يحدث، فذلك سيكون بمثابة تواطؤ مِن جانبي.
ـ أقسمُ لكِ أنّني لستُ على عِلم بشيء! صدّقيني! إنّها أمّي وأحبُّها أكثر مِن أيّ شيء!
ـ أنصحُكَ بتفتيش البيت بغياب زوجتكَ بحثًا عن تلك المادّة المُخدِّرة، والتخلّص منها.
ـ التخلّص مِن المادّة المُخدِّرة أو مِن زوجتي؟
ـ القرار يعودُ لكَ... فمَن يفعلُ ذلك قد يفعلُ ما هو أخطَر.
بعد يومَين، رأينا الكنّة حامِلة حقائبها وراكِبة سيّارة أجرة وهي تبكي، وزوجها وابنها واقفَين عند باب المبنى وعلى وجه الزوج علامات غضب كبير.
ومنذ ذلك اليوم، لَم تعُد العجوز تشكو مِن شيء، بل عادَت إلى حالتها العاديّة. إلتقَيتُ صدفةً بالابن في ردهة المبنى، وهو شكرَني كثيرًا وأخبرَني أنّ زوجته اعترفَت بما كانت تفعله إذ وجَدَ قارورة المُخدِّر، وقالَت له إنّها ليست نادِمة على ما فعلَته لأنّها تمقتُ حماتها وهي مُستعدّة لفعل الشيء نفسه لو أُتيحَت لها الفرصة للتخلّص منها. فهي كانت تأمل بأن يُصيب السيّدة هدى مكروه عندما تكون تائهة، أو أن تقنِعه بوضعها في مؤسّسة خاصّة حتّى آخِر أيّامها.
بعد حوالي السنة، تزوّجَ الرجُل مِن جديد، وتبدو الكنّة وكأنّها بالفعل تُحِبّ حماتها. على كلّ الأحوال، أنا لها بالمرصاد!
حاورتها بولا جهشان




























