لايف ستايل
موقع كل يوم -في فن
نشر بتاريخ: ٣٠ حزيران ٢٠٢٥
يمثل مسلسل 'فقرة الساحر' مبارزة فنية معاصرة تجمع بين الإثارة والذكاء، مقدمًا حداثة متطورة في الكتابة والإخراج. المسلسل من تأليف إياد صالح وإخراج تامر محسن، بمساعدة المخرج كريم العدل، ومن إنتاج طارق الجنايني. لقد شكل هذا الفريق الثلاثي المبدع منظومة احترافية متكاملة، يتداخل فيها التأليف والإخراج والإنتاج بانسجام وفاعلية، مما أسهم في تقديم عمل فني راقٍ وممتع للغاية.
لقد أتقن صناع العمل بناء القصة على الورق قبل الانتقال إلى مرحلة التنفيذ، واستمتعوا بالعملية الإبداعية جنبًا إلى جنب مع بقية العناصر، لا سيما أداء الممثلين المتميز الذي ظهر جليًا على الشاشة وخلفها. في الختام، استمتع الجمهور والنقاد على حد سواء بهذا العمل الجديد.
يتناول المسلسل موضوعًا مستهلكًا فنيًا عن النصب والاحتيال والخداع، لكنه يقدمه بأسلوب عصري ومتطور. تدور الأحداث حول عصابة تتكون من ثلاثة أصدقاء منذ الطفولة، تجمعهم علاقة مودة عميقة تتجاوز أي خلافات، محققين بذلك مقولة 'الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية'. هذه العلاقة المتينة بين الشخصيات الرئيسية تبدو وكأنها انعكاس للانسجام الذي جمع صناع العمل الثلاثة في البداية.
تجسد جماليات العمل في كل تفاصيله، بداية من الأداء المتميز للممثلين وحتى تسلسل الأحداث المترابط. يتكون المسلسل من ثماني حلقات، وكان من الممكن اختصاره إلى سبع حلقات لولا حرص صناع العمل في الحلقة السابعة (ما قبل الأخيرة) على العودة إلى البناء الأسري والدرامي ودوافع الأبطال، والتركيز على الجوانب الإنسانية وراء ذكائهم الفائق وتصرفاتهم غير السوية، بالرغم من التحديات والظروف التي مروا بها منذ الصغر.
لقد أجاد صناع العمل في هذا التضمين الذي كان يمكن وضعه في الحلقات الأولى، لكن تأخير المصالحة الذاتية لنفسية كل بطل جاء في وقته، مما سمح للمشاهد بالاستمتاع بكامل حلقات العمل في تشويق وإثارة ومتعة. ورغم التلميح في البدايات إلى تلك الخلفيات التنشئية، إلا أنهم أغدقوا في الإثارة والغموض والمفارقات، ما شد انتباه المشاهد للمتابعة دون الحاجة لتفسير مسبق. وفي النهاية، قدموا لنا مبررات مقنعة لتصرفات الأبطال، وصولًا إلى نهاية متعادلة نسبيًا بين ثنائيات متناقضة كالخير والشر، والحقيقة والخيال، والأسود والأبيض، بأسلوب خفيف ومبسط ومقنع وجذاب.
تعتمد القصة على تيمة بسيطة تم تكرارها فنيًا في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، مثل 'الأصدقاء الثلاثة' أو 'الأشقياء الثلاثة' أو 'النصابين الثلاثة'. ولعل أشهرها مؤخرًا هو ثنائية عادل إمام ولبنى في 'عصابة حمادة وتوتو' السينمائي، الذي أشار إليه صناع العمل في بعض المشاهد التلفزيونية.
لكن في مسلسل 'فقرة الساحر'، أبدع صناعه في تقديم عصابة 'ألفي' (علي قاسم) و'لمي' (أسماء جلال) و'ماكس' (طه دسوقي)، منذ طفولتهم البريئة التي جرحتها الحياة وتحدياتها التي ألقت بظلالها على تنشئتهم الاجتماعية. يلتقون مجددًا في شبابهم بعد أن فرقتهم السبل، أو يلتقون صدفة في قسم للشرطة لتبدأ أنشطتهم الاحتيالية بكل أناقة ورقي وعصرية. يعتمدون على التقنيات الحديثة والمتطورة والذكاء الاصطناعي، دون إغفال للذكاء الفطري البشري الطبيعي، للاحتيال على الأغنياء والأقوى منهم. يخدمهم الود فيما بينهم وتوزيع الأدوار دون أنانية، مما يمنح كل عضو في الفريق دوره وحقه ونصيبه بالتساوي والإنصاف.
ربما هذه القيم وحدها هي التي أنقذتهم من ظلم مجموعة من الأثرياء المرفهين الذين يتلاعبون بضمائر وأرواح وأموال الناس. يمثل هذا الفريق الأخير صورة معاكسة لفريق الشباب، حيث يفتقرون للضمير الحي، بينما يظل لدى كل فرد من فريق الأبطال ضمير حي يلجأ إليه في الأزمات
القصة بسيطة وخفيفة، لكن في أعماقها توجد قصص واقعية أخرى تم التلميح إليها، لا سيما في قصص السرقات حول خيرات مصر المنهوبة، سواء فوق الأرض أو تحتها. خيرات طبيعية وغير طبيعية تكاد تتجاوز مصادر الدخل العالمية المعروفة في جميع الدول.
يبقى ذكاء وطيبة وضمير الإنسان المصري البسيط، الممتد عبر حضارات دامت لأكثر من 7 آلاف سنة، مستمرًا في عطائه المتراكم للعالم أجمع. ورغم الإساءات التي يتعرض لها أحيانًا من أعداء الخارج أو الداخل، يظل الإنسان المصري الأصيل نموذجًا للنجاح الحقيقي دون احتيال أو نصب، لأن الأساس متين وسليم وقوي.
تحية تقدير وامتنان لكل من ساهم في هذا العمل، من أكبر الممثلين إلى أصغرهم. وإذا كان لا بد من ذكر بعض السلبيات، فلعل أبرزها ظهور جمال المغرب في الحلقات الأولى بشكل دعائي سياحي ترويجي أكثر مما لمسناه في إبراز ذلك نسبيًا عن مصر لكن يبقى العمل مميزًا إلى حد كبير وممتعًا للمشاهدة، خاصة وأنه تم إخراجه في ثماني حلقات فقط، متجاوزًا التطويل والحشو الذي نلاحظه كثيرًا في أغلب المسلسلات الأطول
في الختام، يثبت مسلسل 'فقرة الساحر' أن الإبداع الحقيقي لا يكمن في ابتكار موضوع جديد بالكامل، بل في القدرة على تقديم القديم بروح عصرية ومبتكرة. لقد نجح هذا العمل في تحويل قصة الاحتيال التقليدية إلى حكاية إنسانية عميقة، تلامس قضايا الضمير والصراع بين الحق والباطل، وذكاء الإنسان في مواجهة الظلم. إنه بحق بصمة فنية متميزة تؤكد على أن الدراما الهادفة والممتعة لا تحتاج إلى التطويل، بل إلى الإتقان والعمق والانسجام بين كل عناصرها. عمل يستحق المشاهدة ويثبت أن الفن قادر على طرح الأسئلة الصعبة بأسلوب خفيف وممتع.