اخبار ليبيا
موقع كل يوم -صحيفة المرصد الليبية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
السلطات الليبية تخوض معركةً يومية فيما يخاطر الآلاف بعبور الصحراء تحت قيظٍ لاهب أملاً في حياةٍ أفضل
الصحراء القاتلة: مشهد البداية
يطلقون عليه اسم «البحر الرملي الأعظم»، وليس في التسمية مبالغة.
فالامتداد الصحراوي الذي يبدأ من غرب مصر إلى شرق ليبيا هو فضاءٌ شاسع من العدم؛ رياحٌ حارة تعصف بالرمال فترسم تموّجات كأمواج البحر، وعواصف غبارية قادرة على دفن الكائنات الحية في ثوانٍ. قلّما ينجو شيء هنا: بضع نُبيتات صحراوية تتشبث بكسرةِ رطوبة، وقليل من الكائنات التي تكيفت مع هذه الظروف على مدى آلاف السنين. بالتأكيد ليست هذه أرضًا للبشر، ولهذا تُرى كلُّ تلك البقايا المأساوية.
طريق مئات الآلاف عبر الرمال
عظامٌ يابسة تشقّ رمالًا متفحمة، بيّضتها شمسٌ لافحة، تقف تحذيرًا مخيفًا من المصير الرهيب الذي ينتظر من يحاول اجتياز هذا القفر. ومع ذلك فهذا هو الطريق الذي يسلكه مئات الآلاف من الأفارقة جنوب الصحراء طمعًا في بلوغ الغرب، وربما نيل حياةٍ جديدة في المملكة المتحدة. ففي كل أسبوع يتدفّق مهاجرون غير نظاميين من السودان وإريتريا وتشاد والنيجر عبر الحدود إلى ليبيا، على أمل أن تكون حقًا «بوابة أوروبا».
خيار ليبيا: المرور أم المنع
وللسلطة الليبية خياران: أتعامل كما يُتَّهم الفرنسيون في مدينة كاليه، فتُلوِّح للمهاجرين بالمرور قُدُمًا؟ أم تؤدي معروفًا للمملكة المتحدة وغيرها من المقاصد المنشودة، وتحاول أن تمنع استخدام ليبيا بوصفها طريق عبور؟
حرب على الحدود والساحل
بدون دعم من حكومة المملكة المتحدة، وبقليلٍ من الاتحاد الأوروبي، اختارت الخيار الثاني. بالنسبة إلى الجيش الوطني الليبي، الذي يُشرف على معظم الجهد، هي حربٌ برًّا وبحرًا، تتركّز على نقاط الدخول في الجنوب، وبخاصة مثلث الصحراء حيث تلتقي حدود السودان ومصر وليبيا؛ وكذلك على نقاط الخروج على الساحل المتوسطي. الهدف: توقيف أكبر عدد ممكن من المهاجرين واحتجازهم قبل أن يبلغوا أي شاطئ.
انتشال الجثامين… روتين مأساوي
مرّة أو مرتين في الشهر، تدفع أرتالٌ طويلة من مركبات حرس الحدود رباعية الدفع من نقطة نهاية آخر طريقٍ مُعبّد في ليبيا إلى عمق الصحراء، بحثًا عن أحياءٍ وأموات. وخلال عمليةٍ روتينية الأسبوع الماضي، جرى انتشال خمسة جثامين. لم يتبقَّ الكثير من أولئك البائسين الذين انتهى حلمهم تحت القيظ: هياكلُ وجماجم تمسك بها بقايا ثياب. متطوّعون من الهلال الأحمر، يرتدون الأقنعة والقفازات، بذلوا ما في الوسع لاستعادة الجثث بكرامة، منزلقين بها داخل أكياسٍ سوداء لدفنٍ لائق.
واحد من كل أربعة يهلك في الصحراء
إنها مهمة بائسة، لكنها باتت مألوفة لدى السلطات: إذ يُقدَّر أن واحدًا من كل أربعة مهاجرين يحاولون عبور الصحراء يلقى حتفه. يدفعون لمهرّبي البشر مقابل مقاعد على شاحنات «بيك أب»، لكنها — مثل قوارب القنال — غالبًا ما تكون غير صالحة للاستخدام ومحملة بما يفوق طاقتها. وحين تغوص في الرمال، يُرغم الركاب على الترجل والسير.
عقوبات تُقيد الأدوات
ويقول الجيش الوطني الليبي إن ما يحتاجه حقًا لإدارة أزمةٍ تمتد على آلاف الكيلومترات المربعة هو الطائرات المروحية والمسيّرات، لكنه لا يستطيع الحصول عليها بسبب عقوبات الأمم المتحدة. فالحظرُ المستمر منذ سنوات على واردات كل ما قد تكون له استخدامات عسكرية، هو إرثُ الفوضى التي عصفت بليبيا بعد سقوط العقيد معمر القذافي عام 2011. في ذلك الوقت، اعتقد ديفيد كاميرون — الذي قاد حملةً دولية من الغارات الجوية وضربات الصواريخ على قوات الديكتاتور — أنه أسهم في تحرير البلد من مستبد. في شوارع بنغازي، استقبلته حشودٌ ممتنّة كبطل. وقد تعهّد بأن يقف إلى جانبهم وهم يعيدون بناء بلادهم. لكن ليبيا انزلقت إلى فوضى عارمة، وتوارى هو وسائر المجتمع الدولي عن المشهد.
غرب فوضوي و«حكومة» اسم بلا مسمى
واليوم يبقى غرب ليبيا فوضى خطرة من ميليشياتٍ متناحرة وتجار مخدرات وسلاح غير مشروع. والمفارقة أن هذه هي البقعة التي تتمركز فيها «حكومة الوحدة الوطنية» المعترف بها دوليًا. والاسم في غير موضعه؛ فسلطتها بالكاد تطال طرابلس، فضلًا عن غيرها. وباعتبارها قائمةً في أكثر أجزاء البلاد اضطرابًا، تبدو هذه الإدارة حلًّا مؤقتًا عاجزًا في انتظار انتخاباتٍ وطنية لا تأتي أبدًا.
شرق ينهض: صورة من بنغازي اليوم
على النقيض من ذلك، يبدو أن السلام عاد إلى الشرق حيث تشهد بنغازي ازدهارًا. اليوم يغدو وسط المدينة مشهدًا هادئًا من مطاعم مأكولات بحرية، ومقاهٍ تقدّم كرواسون طازجًا بنكهتي العسل واللوز، وأخرى في باحاتٍ غنّاء في الهواء الطلق.
طرقاتٌ أفضل من مثيلاتها في بريطانيا.
مراكز تسوّق جديدة تلمع بمتاجر راقية للأزياء والرياضة. بعض العلامات الكبرى — رصدت «أديداس» و«ماموسو» و«أوميغا» — موجودٌ بالفعل؛ وأخرى في الطريق.
صفقات تطوير الواجهة البحرية
الازدحام المروري مزعج، لكن الطرقات أفضل ملحوظًا من طرقاتنا. قد تذكّرك بتونس أو بدبي القديمة، وليس أقلَّ لأن شركة «إعمار» الحكومية الإماراتية تبدو حاضرة في كل مكان. وعلى ما يبدو جرى إبرام صفقة مع الإماراتيين لتطوير ما يقارب 10 كيلومترات من الواجهة الساحلية. يجري تشييد فنادق فاخرة وأبراج سكنية وتجارية أنيقة — وحتى ملعب غولف. وفي الأثناء يبتكر مخططو المدن حدائق وبحيرات ويُشيدون سبعة جسور جديدة. باختصار، مدينةٌ ذات ماضٍ مضطرب تدفع بقوة إلى عصرٍ جديد.
ذاكرة العنف لا تغيب
وسط هذا الشعور بالتجدد، يصعب تخيّل أن تنظيم «الدولة الإسلامية» كان يعيث هنا فسادًا. لا يزال السكان تطاردهم الفظائع التي اقترفها: رؤوسٌ مقطوعة تعلّق على الجسور؛ عائلاتٌ تُدفع للفرار بحياتها فيما تقصف قذائف الـ«آر بي جي» الأحياء السكنية.
من قنصلية أميركا إلى أنقاض المدينة القديمة
هنا فقد السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز حياته، إلى جانب اثنين من المتعاقدين مع وكالة الاستخبارات المركزية، عندما هاجم متطرفون إسلاميون السفارة الأميركية عام 2012. ولا يزال جزء صغير من المدينة القديمة يبدو كغزة أو حمص: أبراجٌ سكنية مهدّمة تميل على أكوامٍ من الركام، ودرجٌ مكشوف بقي معلّقًا خطرًا حين طارت الجدران الخارجية وتحوّلت المباني إلى هياكل جوفاء.
نُصب للذاكرة… وعبور إلى المستقبل
ثمّة حديث عن الإبقاء على جزءٍ يسير من هذا «نُصبًا» لزمنٍ فظيع، لكن بنغازي تجاوزت الماضي بالفعل. رسميًا، ما يزال شرق ليبيا — الذي يضمّ الغالبية العظمى من نفط البلاد وغازها — تحت سيطرة الجنرال خليفة حفتر الذي طردت قواته الجهاديين قبل خمس سنوات، لكن السلطة تنتقل الآن إلى أبنائه. جيلٌ أصغر بأفكارٍ كبيرة وأسلوب قيادة مختلف تمامًا.
صدام حفتر: جيل جديد وأسلوب مختلف
لا يزال صدام حفتر في الثلاثينيات من عمره، وهو من هواة القفز المظلّي والرياضات المغامِرة، وله صفحة على «إنستغرام». يُوصَف بأنه حداثي، ويبتعد تدريجيًا عن الروابط التاريخية مع روسيا، ويبني علاقاتٍ جديدة مع حلفاء غربيين.
زيارات خارجية ورسائل إلى الغرب
وفي الأشهر الأخيرة قام بزياراتٍ رسمية إلى واشنطن (حيث التقى كبيرَ مستشاري ترامب، مسّاد بولوس)، وإلى إيطاليا وفرنسا. والمساهمة في مساعدة الغرب على كبح موجة المهاجرين غير النظاميين المتدفقة من الساحل الأفريقي إلى أوروبا ليست سوى جزءٍ صغير من جهدٍ أشمل لإظهار أن ليبيا باتت مستعدةً مجددًا للعب دورٍ إيجابي على الساحة الدولية.
إعادة اللاجئين… ومنع الوصول إلى الشواطئ
ومع أن أذرعهم «مقيدة» بالعقوبات — المبرَّرة ولا ريب بالفوضى في طرابلس، لكنها تبدو مجحفة في الشرق — فإن سلطات الهجرة تبذل ما بوسعها لمساعدة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. ففي كل شهر يعيدون مئات اللاجئين السودانيين الذين كان يمكن أن يبلغوا بريطانيا، حيث تُمنح اللجوء لـ 99 في المئة منهم. ومن دون ضجيج إعلامي، يُعاد هؤلاء ببساطة إلى أجزاء من بلادهم تراها السلطات آمنة.
تكتيكات البحر: بلا معدات متقدمة
وفي مقابلاتٍ خاصة مع «التلغراف»، شرح مسؤولون في البحرية وخفر السواحل أنهم لا يجدون غضاضة في إيقاف القوارب، وأحيانًا يستعينون بسفنٍ تجارية. إنهم يعملون من دون ميزة أنظمة المراقبة المتطورة وسفن البحث والإنقاذ الباذخة التي تمتلكها قوات الحدود البريطانية والفرنسية تحت تصرّفها، لكنها تختار ألا تستخدمها لإرجاع الزوارق في بحر المانش. وبسبب العقوبات، لا تستطيع البحرية ولا خفر السواحل استيراد قطع غيار لأسطولهم المتقادم.
«سحق العصابات» حرفيًا
ورغم العُدّة غير المثالية، فلا نقص في العزيمة. ففي «بنغازي حفتر»، يتم هناك «سحق العصابات» حرفيًا تقريبًا ذلك. مقاطع مصوّرة مصقولة لمداهمات ضد مهربي البشر تُظهر عسكريين يستخدمون الكباش الحديدية لاقتحام أوكار العصابات.
معالجة «المنبع»… طرحٌ يكتسب معنى
في بريطانيا، يكثر حديث اليساريين عن معالجة أزمة الهجرة غير النظامية «من المنبع». لم أُعر ذلك اهتمامًا من قبل؛ إذ يبدو «إصلاح أفريقيا» نصيحةً تنضح باليأس. لكن يبدو أن فيها شيئًا من الصحة. أيّ منطقٍ في ألا ندعم إجراءاتٍ عملية على الخطوط الأمامية — كما في ليبيا؟ ستعترض الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية شاكيةً حقوق الإنسان، وقد يكون لها وجهة نظر. ورغم تأكيد مسؤولي الهجرة الليبيين أنهم يعاملون المحتجزين معاملةً حسنة، فقد لا تتطابق فكرتهم عمّا يسمونه «المعايير الدولية» مع معاييرنا. وعندما يطالعون أخبار الإقامات الفندقية الفاخرة وسواها من الكماليات التي نوفرها لطالبي اللجوء، يظنّون أننا مجانين. ومع ذلك، يريد القادة في هذا الجزء من ليبيا للعالم أن يرى كيف يتغير البلد. وهم أذكى من أن يجهلوا أن انتهاكات حقوق الإنسان لا تجذب مستثمرين أجانب ولا علاماتٍ فاخرة.
توجسٌ قبل الوصول… وطمأنينة عند المغادرة
هبطتُ في ليبيا وأنا أشعر بالتوجس، وقد سافرتُ خلافًا لنصيحة وزارة الخارجية. وغادرتها وأنا أتساءل: لماذا لا يزال الشرق يُعدّ خطيرًا؟ سيخبرك «غوغل» أن آل حفتر «زعماء حرب»، وهذا صحيحٌ أنهم كانوا كذلك. ولا شك أن ثمّة تياراتٍ خفيةً قاتمة في أسلوب عملهم — كما يحدث عادةً في الأنظمة السلطوية ذات الثروات الطبيعية الوفيرة. لكن تحت قيادةٍ قوية ذات رؤى كبيرة، يستطيع الناس — ويفعلون — أن يعيشوا حياةً طيبة.
مواطنو بنغازي ممتنون لمن هم على رأس السلطة اليوم
وبينما يمضي المواطنون العاديون في بنغازي في شؤونهم تحت شمسٍ دافئة، من دون أن يعكّر صفوهم متطرفون ملتحون يحملون الكلاشينكوف لفرض تأويلاتٍ مريضةٍ للإسلام، أظن أنهم ممتنون لمن هم على رأس السلطة اليوم.
نرجمة المرصد – خاص