أسرى نفق الحرية.. وراء العدو في كل مكان

يتعامل الأسرى الفلسطينيون مع السجن كساحة نضال لا تنفصل عن الساحة الخارجية، إذ يعدّ الشعب الفلسطيني فلسطين بمنزلة سجن كبير لا يُهدم إلا بالخلاص من الاحتلال إلى الأبد.

يقول الشهيد رائد نزال، وهو أسير سابق، استشهد في معركة مع الاحتلال بتاريخ 26نيسان/أبريل 2002: 'السجن ساحة مواجهة داخلية لا تنفصل عن الساحة الخارجية'.

وفي سياق متصل، يتفق غرامشي مع ما قاله الشهيد رائد نزال، إذ قال الأول في رسالته المؤرخة بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر 1927 إلى أمه من السجن: 'إن السجن أيضاً يعدّ وسيلة للمواجهة، إن لم يكن وسيلة للترفيه أو على الأقل ضرورة، بحكم أنه لا يخيفني كفرضية ولا يحبطني كواقع'.

وعليه، يتعامل الأسرى الفلسطينيون مع السجن كساحة نضال لا تنفصل عن الساحة الخارجية، إذ يعدّ الشعب الفلسطيني فلسطين بمنزلة سجن كبير لا يُهدم إلا بالخلاص من الاحتلال إلى الأبد.

ولذلك، تمسك الأسرى الستة الذين حققوا الانتصار من خلال النفق 'بالأمل'، لأن الهدف الأساسي كان 'الحرية'، والفلسطيني يعدّ السجن محطة ضمن محطات المقاومة في الصراع مع الاحتلال.

يبقى السؤال كيف ذلك؟ هنا، علينا العودة إلى أساس الفعل المقاوم كسلوك قبل الدخول إلى المعتقل.

وفي هذا السياق، يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: 'إن هناك أربعة أنماط من الفعل للسلوك الإنساني، هي: الفعل العقلاني، والقيمي، والعاطفي، والتقليدي، وفي حالة السلوك المقاوم نستطيع القول إن ما ينطبق هنا هو السلوك الإنساني المرتبط بجميع هذه الأنماط.

يمارس المقاوم الفلسطيني فعل المقاومة كسلوك عقلاني عبر فهم حالة الصراع مع الاحتلال، وأيضاً هو سلوك مرتبط بقيمة أخلاقية، وإنسانية، وتعاليم دينية يستند إليها في المقاومة، ومثال على ذلك: قضية القدس وبُعدها الديني، بالإضافة إلى أنه سلوك نابع من العاطفة من خلال حب الوطن، وفكرة الحنين، يضاف إلى ذلك، أنه سلوك مبني على التقاليد والعادات الخاصة بالشعب الفلسطيني.

هذه الأفعال يكون الهدف الأساسي منها هو انتزاع الحرية، ولذلك كان 'النفق' بمنزلة فعل مقاوم مبني على السلوك الأول، وليس منفصلاً عنه، إذ يعدّ السجن هنا جزءاً من حالة الصراع مع الاحتلال.

ولذلك، كل نمط من السلوك حتى لو كان صغيراً، يصب في النهر الكبير، الذي يُعرف عند الشعب الفلسطيني باسم 'نهر الحرية'.

وبناءً على ما سبق، يعدُّ سلوك الأسرى الستة بمنزلة فعل متغيّر حسب طبيعة المرحلة، والثابت هنا هو الحرية، والقصد أن الخيار الاستراتيجي في صيرورة المواجهة مع الاحتلال هو 'الحرية'، والخيار المرحلي هو ' الفعل المقاوم قبل السجن، وداخله أيضاً'، حيث يمارس المقاوم الفلسطيني التكتيك في الخيار المرحلي المختلف بحسب المرحلة.

وللتوضيح أكثر، قام الأسرى الستة بحفر النفق وهم: محمود العارضة، محمد العارضة، يعقوب قادري، وأيهم كممجي، ومناضل نفيعات، وزكريا الزبيدي، من أجل الحرية التي مارسوا قبل السجن فعل المقاومة لأجلها.

يقول ميشيل فوكو في كتابه 'المراقبة والمعاقبة': 'يصبح السجن ملاذاً للتعسف والإساءة التي تمارسها السلطة، وعلى عكس المشاع، فإن السجن ينتج الجريمة ويحث على إنجابها'، ولكن الأسرى بشكل عام، والأسرى الستة بشكل خاص، قاموا بدحض نظرية 'فوكو'.

فعلى الرغم من أن الاحتلال يحاول العمل على هذه النظرية، ولكن هذا النمط من الفعل المقاوم من خلال حفر النفق قام بتحويل السجن ملاذاً للمواجهة، والنصر، وأكثر فقد أنتجت السجون، وأنجبت عبر تاريخها قيادات في صفوف الأحزاب والحركات الفلسطينية، سواء على الصعيد السياسي، أو حتى العسكري، ما يثبت وأد نظرية فوكو.

قد يعتقد الاحتلال أن إنشاء السجن سيحقق التحول من فرض السلطة على الجسد إلى فرض السلطة على غير الجسد، كما قال 'ميشيل فوكو'، والقصد هنا معاقبة الروح قبل الجسد، ولكن عبر تاريخ الحركة الأسيرة فشلت محاولة الاحتلال في ذلك، وخصوصاً مع أسرى نفق الحرية.

لقد اعتقد الاحتلال بأن إعادة اعتقالهم ستفقدهم الأمل بالحرية، ولكن الرسائل التي وصلت من زنازين العزل الانفرادي تثبت عكس ذلك، ومثال على ذلك، ما قاله الأسير يعقوب القادري خلال محاكمته بعد قضية النفق: 'ليس القرار مهماً، بل المهم أننا صنعنا المستحيل، واخترقنا الأجهزة الإسرائيلية ووجهنا الصفعة، وما كان بالنسبة إلى 'إسرائيل' وأجهزتها مستحيلًا، نحن وصلنا إليه'.

في السجن، لا تقول انتهى كل شيء، في السجن تقول: ابتدأ كل شيء، والبداية هي الحرية، هكذا قال محمود درويش.

وهنا، إذا قمنا بإسقاط الكلمات على أسرى نفق الحرية نستطيع القول: إن النفق ما هو إلا البدء من جديد للتنقيب عن الحرية التي تحتاج إلى معول المواجهة، والصمود، والإرادة، وأكثر كان هذا النفق تطبيقاً لمقولة الشهيد وديع حداد: 'وراء العدو في كل مكان'، والأسرى من خلال حفرهم النفق كأنهم يقولون: حتى داخل السجن.

الأسرى منذ نشوء السجون لا يخجلون من السجن، لأن سلوكهم المقاوم ما قبل السجن ليس مبنياً على نمط جريمة، بل على نمط مقاومة، وأن الأقفال، والزنازين بالنسبة إلى الأسرى تشكل مشروعاً لقتل الفخر الذي يشعر فيه الاحتلال ببناء هذه القلاع التي كان يعتقد من خلالها بأنه يستطيع تقويم نفوس المقاومين، ولكنها جاءت بالعكس تماماً.

والدليل على كل ما سبق، لا يعدّ الأسرى الفلسطينيون أنفسهم سارقين، ولا مغتصبين، ولا قتلة...، بل هم مقاومون في سبيل الحرية كفكرة نبيلة، هي قصيدة الأسير أيهم كممجي، التي قال فيها:

مرج عامر قم حدث قصة أبطالها نفروا إلى الرحمن

ما همهم بيت الطغاة وسجنهم عافوا قيود الذل والحرمان

فالحر يأبى أن يكون مقيداً والصقر يأنف ذلة الخرفان

زنزانتي متر بمتر طولها ولعرضها نصف متر ثاني

لكن عزائي أن لي في غزة إخواننا وبأسرهم غربان.