اخبار الجزائر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٧ أيار ٢٠٢٥
تحاول فرض وجودها بحرفيين مبدعين يصارعون الغزو الصناعي والتجاري للألعاب البلاستيكية
على رغم التطور التكنولوجي الذي يشهده العالم، والذي تسبب في اختفاء عدد من الحرف والمهن القديمة، فإن أخرى ترفض الاندثار وتصارع من أجل البقاء، ولعل صناعة الدمى من مادة القش وقطع القماش واحدة من الحرف التي تقاوم العولمة في الجزائر، من خلال تمسك مبدعين لا يزالون يرفعون راية التحدي للحفاظ على هذه الحرفة.
وتعترف مختلف الأطراف بانحسار دائرة صناعة الدمى من مادة القش وقطع القماش في الجزائر أمام محدودية نشاط مسرح العرائس، الذي يعرف أيضاً بـ'القراقوز' و'الأراجوز' و'القراقوش'، وقد انتشر بصورة لافت في المدارس والمسارح ودور السينما خلال فترة سابقة، ليخفت وهجه إلى تنظيم مهرجانات ودورات قليلة العدد سنوياً، غير أن هذه الحرفة تحاول فرض وجودها بحرفيين مبدعين يصارعون التطور والغزو الصناعي والتجاري للدمى البلاستيكية والسيليكون.
ويعد الصالون الوطني للنشاط المصغر الذي ينظم سنوياً، واحداً من المناسباًت التي تستحضر حرفة صناعة الدمى القماشية، لكن ليس للمشاركة في عروض مسرحية أو 'قراقوزية'، وإنما من أجل الترويج للملابس التقليدية الجزائرية في شكل عارضات أزياء، كمحاولة للحفاظ على الحرفة واستمراراً ثقافة الدمى التي كانت إلى وقت قريب مصدر متابعة واهتمام شعبي واسعين.
حلم مصنع الدمى
تقول الحرفية المتخصصة في مجال الدمى وعارضة الأزياء التقليدية صليحة آيت حسان إن إقبالها على هذا النوع من الفنون لم يكن وليد الصدفة، بل يعود ولعها به إلى طفولتها حين كانت تقلد ما تشاهده على التلفزيون، وأبرزت أن أول فستان أعدته لدميتها أثار إعجاب صديقاتها وعائلتها، وفي وقت لاحق أضحى الطلب على الدمى التي ترتدي ألبسة تقليدية يأتيها من كل حدب وصوب.
وكشفت عن أن الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر رافقتها في تجسيد مشروعها، وشجعتها على إنجاز أكبر قدر من الأزياء التقليدية من أجل المشاركة في المعارض، وهو ما أسهم في الحفاظ على صناعة الدمى، مشيرة إلى أن القرض الذي حصلت عليه سمح لها باقتناء المادة الأولية ومختلف الأقمشة والأكسسوارات. ومؤكدة أن طموحها هو إنشاء مصنع للدمى.
أيام 'إيراثن' لمسرح عرائس 'القراقوز' هي أيضاً إحدى المواعيد المهمة في مجال الدمى، على اعتبار أنها تهتم بتقديم عروض مسرحية، وفي ذلك أشار رئيس الجمعية المنظمة للمهرجان علي بودارن، إلى قلة المهرجانات المخصصة لعروض عرائس القراقوز، موضحاً أن الهدف من أيام 'إيراثن' هو سد هذا النقص، فـ'عرائس (القراقوز) جزء من العالم الثقافي للجزائر، وقد ترك بصمته في أجيال كاملة من الأطفال'.
يعود تاريخ مسرح الدمى إلى عصور قديمة، إذ تم استخدامها لتمثيل أفكار ومشاعر المجتمعات البشرية ونقلها كما تدل على ذلك الشواهد الهيروغليفية واليونانية القديمة، وازدهر هذا الفن في العالم العربي خلال العصر الوسيط، وتحديداً في القرن الـ14، وفق ما تذكر المراجع التاريخية التي أبرزت أن مسرح الدمى كان له تأثير في تكوين مؤثرات الفرجة في بلدان العالم العربي وقارة أفريقيا.
وإذ تتعدد العرائس في أشكالها وطرق صنعها واستعمالها ومهارات تحريكها، فقد اكتسبت أيضاً بعداً رمزياً، بخاصة في مسرحيات العرائس أو 'القراقوز'، بحسب منطق النص والحكاية والجمهور والهدف التعليمي والترفيهي، ولا يتوقف دور العرائس عند التسلية والمعرفة، بل يمتد إلى التوجيه للفضائل الصحية وعادات الأكل، حيث كانت مواضيع الغذاء والنظافة والحياة الصحية من الأولويات الضرورية لنشاط مسرح الدمى الفني.
من أجل البقاء
الحرفية المتخصصة في صناعة الدمى التقليدية سمية كروش ترى أن الدمى التقليدية تجسد الحياة الاجتماعية، وكذلك العادات والتقاليد لكل منطقة، من دون إدخال تعديلات عليها بغرض المحافظة على أصالتها، وتقول إنه على رغم تطور الصناعة التقليدية فإن الدمى ما زالت وراء الستار، وقليلون فقط من يهتمون بها، مضيفة أن هذه الحرفة تعاني معوقات كثيرة أهمها غياب الإمكانات وصعوبة التسويق.
وشددت كروش على أن 'العرائس التقليدية تعد جزءاً من ثقافات الشعوب بما تحمله من موروث فكري، وعرفت الدمى التي ترتبط بأنامل الجدات ومحاولاتهن إسعاد أحفادهن طريقها إلى التراث الجزائري منذ زمن طويل، إذ كانت ذات مغزى شديد الخصوصية في البيت، وتحديداً عند الفتيات، وبهدف حفظ هذا التراث وتعميق الارتباط بأواصر الماضي الجميل يجب إعلان التحدي من أجل البقاء والاستمرار، خصوصاً بعدما طغت الدمى الصناعية على مفهوم الألعاب الشعبية'.
تذكر كتب التاريخ أن صناعة الدمى عريقة في الجزائر، حيث ازدهر مسرحها في البلاد خلال العهد العثماني، وسبب الذعر لفرنسا في عهد الاستعمار، ما جعل سلطاتها تصدر عام 1843 قراراً بمنع هذا النوع من الفنون في المقاهي والنوادي والساحات العامة، لأن الشعب اتخذه أحد أساليب التعبير ووسيلة للحفاظ على انتمائه الفكري والعقائدي.
يصف الرحالة الألماني فيلهلم شيمبرا أجواء رمضان بالجزائر في ديسمبر (كانون الأول) عام 1831، بالقول إن 'الجزائريين يعلنون عن بدء شهر رمضان بإطلاق 100 طلقة من مدفع كبير، ويحرصون على سماع الموسيقى في الليل، ويأكلون الكسكس بالزيت واللحم المقلي والفاكهة، وبعدها ينصرفون إلى مشاهدة العروض الهزلية أو المسرح الشعبي (القراقوز) الذي يشبه ما يحدث في مسرح العرائس الألماني'.
إنقاذ الصناعة
في محاولة لإنقاذ صناعة الدمى تسعى بعض التعاونيات والمراكز والنوادي الثقافية إلى نشر وبعث نشاط عرائس 'القراقوز' عبر تكثيف المواعيد المسرحية وتوسيعها إلى المدارس والساحات العامة، وأوضح نائب رئيس التعاونية الثقافية 'فن بلادي' لخضر مكاوي، أن العودة القوية لهذا النوع الثقافي بدأت تبرز بمرور الأيام مع الاهتمام الكبير الذي يوليه الأطفال الذين ينغمسون مع الحكاية أو القصة التي تتضمن جوانب من التاريخ والتربية، وتكون فيها الدمى أدوات لإيصال المحتوى.
وأشار مكاوي إلى أن الدمى عرفت منذ آلاف السنين، وأن حال الانبهار ناجمة عن شكل العرائس والمادة المصنوعة منها وما ترتديه من ملابس زاهية الألوان تجذب انتباه الطفل، بخاصة أنها قريبة جداً من ملابس الأطفال والكبار وتمتاز بواقعيتها، فيزداد بذلك تلقيهم لما تبثه من أفكار وقيم.
وأضاف أن من الضروري تكثيف الجهود على كل المستويات الفنية والأكاديمية والثقافية والإعلامية، وحتى بالنسبة إلى الجهات الرسمية المتمثلة في وزارة الثقافة، من أجل تعزيز وجود عرائس 'القراقوز' على المسرح والترغيب في نشرها بين الأجيال الصاعدة.