اخبار الجزائر
موقع كل يوم -بي بي سي عربي
نشر بتاريخ: ٢٨ أب ٢٠٢٥
اضطرت سناء، شابة جزائرية في منتصف العشرينيات، إلى تحدي والدها حين وصلها خطاب القبول في إحدى المنح المرموقة التي تقدمها الحكومة البريطانية. وبعد أشهر من إعداد طلبها الذي شمل خططاً مهنية واضحة، ومقالات، وخطابات توصية، حققت حلمها بالانضمام إلى برنامج لا يقبل فيه سوى نحو أربعة آلاف متقدّم من أصل أكثر من ستين ألف طلب سنوياً حول العالم.
لكن فرحتها لم تدم طويلاً. فقد استقبل والدها الخبر برفض قاطع: 'لا يمكن أن تسافري وحدك إلى بريطانيا دون إذن أو مرافقة'. تقول سناء: 'كان ذلك أصعب قرار في حياتي. لم يكن أمامي إلا الهرب. دفعت ثمنه غالياً، فقد قاطعتني عائلتي لسنوات، لكنني لم أندم'.
لم يكن هذا الموقف مجرد مسألة عائلية، بل هو انعكاس لطابع قانوني واجتماعي راسخ في الجزائر. فـ قانون الأسرة الصادر عام 1984، المستمد من الشريعة الإسلامية، يجرد المرأة من بعض حقوقها المدنية ويشترط وجود وليّ (أب أو أخ أو زوج) لاتخاذ قرارات مصيرية مثل الزواج والتنقل. ورغم أن القانون لا ينص صراحة على إلزامية إذن الولي للسفر، إلا أن العرف الاجتماعي والممارسات الإدارية كإجراءات استخراج جواز السفر أو مرافقة القُصّر جعلت الأمر شبه إلزامي، خاصة في المدن الصغيرة أو في حالات النزاعات الأسرية.
الأكثر قراءة نهاية
قصة سناء ليست استثناءً؛ فقد واجهت أجيال من الجزائريات هذا الجدار العرفي والقانوني ذاته، حيث كُرّست سلطة الرجل في اتخاذ قرارات أساسية مثل الزواج أو السكن وحتى السفر. وقد ظل هذا الواقع قائماً رغم انضمام الجزائر إلى اتفاقية 'سيداو' (CEDAW) منذ التسعينيات، مع تحفظات أبرزها على الفقرة الرابعة من المادة 15 التي تمنح المرأة حق التنقل واختيار محل الإقامة بالتساوي مع الرجل.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، رفعت الجزائر هذا التحفظ رسمياً في أغسطس/آب 2025 بموجب مرسوم رئاسي رقم 25-218. وبحسب وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، فإن هذه الخطوة لا تغيّر الواقع التشريعي مباشرة، لكنها تعد إشارة رمزية مهمة نحو التوافق بين التشريع الوطني والالتزامات الدولية في مجال المساواة بين الجنسين.
'متأخّر ولكن ضروري'
تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي
اضغط هنا
يستحق الانتباه نهاية
في بيت عائلتها بالجزائر، جلست خديجة قلالش، الباحثة في جامعة ليستر والناشطة في مجال حقوق الإنسان، لتخبر والدتها بخبر بدا بسيطاً على الورق لكنه مفصلي في الحياة اليومية: 'لم يعد عليك أن تطلبي إذن أبي لتسافري أو تختاري مكان سكنك.'
تقول خديجة لبي بي سي: 'أنا نفسي احتجتُ إلى إذن والدي حين سافرت لمتابعة دراستي في بريطانيا. كان ذلك جزءاً من واقع المرأة الجزائرية التي تُعامل في القانون والعرف كقاصر تحت وصاية الأب أو الزوج.'
كان هذا الموقف ترجمة شخصية لقرار الجزائر رفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تضمن للنساء حرية التنقل واختيار محل الإقامة أسوة بالرجال. وتضيف خديجة: 'إنه تطوّر واعد، متأخر جداً لكنه ضروري. هو اعتراف ولو صغير بوكالة المرأة على نفسها، واستقلاليتها.'
لكن القرار لم يمرّ بهدوء. فبينما اعتبرته منظمات نسوية مكسباً تاريخياً يعزز مسار المساواة بين الجنسين ويمهّد لإصلاحات أعمق في قانون الأسرة الجزائري، رأته التيارات المحافظة تهديداً لاستقرار العائلة وتفريطاً في المرجعية الدينية والتقاليد.
من جهتها، وصفت منصة 'صوت النساء' الخطوة بأنها 'أكثر من مجرد إجراء قانوني'، معتبرة أن إلغاء التحفظ يمثل إعادة الاعتبار لاستقلالية المرأة داخل الأسرة، بعد عقود من تكريس سلطة الزوج كـ'رئيس العائلة'. وأكدت أن القرار هو ثمرة 'كفاح طويل للحركة النسوية والمجتمع المدني'، من حملات التوعية إلى التقارير الموازية المقدمة للأمم المتحدة. لكنها شددت في الوقت ذاته على أن التحدي الأكبر ما زال يتمثل في إصلاح شامل لقانون الأسرة ودمج مبادئ العدالة الجندرية في السياسات العمومية والثقافة المجتمعية.
'القانون وحده لا يكفي'
عيداً عن القوانين والاتفاقيات الدولية، يرى ناشطون أن التحدي الحقيقي أمام حقوق المرأة في الجزائر يكمن في المجتمع نفسه، المنقسم بين مدن كبرى أكثر انفتاحاً وأرياف ما زالت متمسكة بالتقاليد الصارمة. ففي الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة، بات مألوفاً أن تعمل النساء، أو يسكنّ بمفردهن، أو يسافرن للدراسة والعمل. لكن في البلدات الصغيرة، ما تزال فكرة أن تعيش امرأة وحدها أو تتنقل من دون إذن الأب أو الأخ موضع جدل ووصمة اجتماعية.
وتؤكد الباحثة في حقوق المرأة خديجة أن التغيير لا يتوقف عند النصوص القانونية، بل يحتاج إلى تثقيف النساء بحقوقهن الأساسية. تقول لبي بي سي: 'القانون وحده لا يكفي. إذا لم تعرف المرأة أن لها الحق في السكن أو السفر باستقلالية، فلن تتمكن من المطالبة به. التوعية هي الضمانة الحقيقية ضد أي تراجع أو مقاومة مجتمعية.'
لكن التحدي الأكبر، وفق ناشطات نسويات، يتمثل في غياب البنية التحتية الداعمة للنساء: لا خطوط هاتف كافية للدعم، ولا مراكز إيواء للحالات الطارئة، ولا مكاتب مساعدة قانونية متاحة للجميع. وتضيف خديجة: 'إذا قررت فتاة الانتقال للدراسة في مدينة أخرى وواجهت رفضاً من الأب أو الأخ، فلن تجد شبكة دعم قوية تحميها. هنا يظهر الخلل الكبير بين النصوص القانونية والواقع الاجتماعي.'
تحسين صورة؟
أثار توقيت القرار الكثير من التساؤلات. فبعد أكثر من ثلاثة عقود من المصادقة المتحفّظة على اتفاقية 'سيداو'، لماذا اختارت الجزائر هذه اللحظة تحديداً لرفع أحد أهم تحفظاتها المتعلق بحرية التنقّل والسكن للنساء؟
تضع هذه الخطوة الجزائر ضمن مجموعة من الدول العربية التي بدأت تدريجياً رفع تحفظاتها على الاتفاقية، سواء استجابة لضغوط أممية وأوروبية، أو نتيجة ضغوط داخلية من الحركات النسوية والمجتمع المدني. كما يُنظر إليها كجزء من محاولة الجزائر تعزيز صورتها الحقوقية على المستوى الدولي، في وقت تسعى فيه لموازنة ضغوط الغرب مع حساسيات الداخل.
ويرى محللون أن الخطوة جاءت استجابة لمطالب متزايدة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل المراجعة الدورية الشاملة لسجل الجزائر في مجلس حقوق الإنسان. ويعتبر آخرون أن الأمر مرتبط أيضاً بمحاولة السلطة تحسين صورتها الخارجية، والتأكيد على التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، في وقت تعمل فيه على تعزيز شراكاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع أوروبا وإفريقيا.
ويقول الباحث السياسي الجزائري كمال طيرشي لبي بي سي إن القرار يحمل رسائل مزدوجة: 'للخارج، هو إعلان بأن الجزائر تسير في مسار الانفتاح والمواءمة مع الاتفاقيات الدولية. وللداخل، هو محاولة من السلطة لتأكيد قدرتها على اتخاذ قرارات إصلاحية رغم المعارضة المحافظة.' لكنه يلفت إلى أن نجاح الخطوة يبقى رهناً بمدى ترجمتها إلى تعديلات فعلية في قانون الأسرة الجزائري، أو بقائها مجرد ورقة سياسية لتلميع الصورة.
المحافظون: 'وصفة لانهيار الأسرة'
في المقابل، ارتفع صوت التيار المحافظ في الجزائر رافضاً خطوة رفع التحفّظ. فقد اعتبر السياسي الإسلامي عبد الرزاق مقري أن اتفاقية 'سيداو' 'واحدة من أخطر الاتفاقيات الدولية التي تستهدف تفكيك الأسرة وفرض النموذج الغربي على المجتمعات الإسلامية'. وأضاف متسائلاً عبر حسابه على فيسبوك ومنصة إكس: 'ما الذي تغيّر اليوم حتى نتراجع عن تحفظات رفضناها بالأمس؟'
وبالنسبة إلى هؤلاء المعارضين، فإن رفع التحفّظ لا يقتصر على تعديل مادة قانونية، بل يُنظر إليه كمساس بمنظومة الأسرة الجزائرية المبنية على أسس دينية واجتماعية راسخة. ويخشون أن تؤدي مساواة المرأة بالرجل في قرارات السكن والتنقّل إلى تصاعد النزاعات الزوجية، وزيادة نسب الطلاق التي وصلت بالفعل إلى نحو 40 بالمئة من حالات الزواج في الجزائر.
ويحذّر المحافظون من أن 'المساس بالاختلاف الجوهري بين الرجل والمرأة، كما نصّ عليه القرآن، ليس خطوة نحو المساواة بل وصفة لانهيار الأسرة'. وفي نظرهم، فإن القرار لم ينبع من إصلاح داخلي، بل جاء استجابة لضغوط دولية وغربية قد يدفع ثمنها المجتمع الجزائري لاحقاً.
بين النص والواقع
قد يُسجَّل رفع التحفّظ في النصوص القانونية، لكن أثره الحقيقي يظل مرهوناً بمدى تطبيقه على أرض الواقع. فما زالت نساء كثيرات في الجزائر يواجهن عراقيل اقتصادية وثقافية وقضائية تحدّ من استقلاليتهن. ويرى خبراء أن غياب إصلاحات موازية ـ من تدريب القضاة وأجهزة الشرطة إلى رفع الوعي المجتمعي ـ قد يجعل الخطوة أقرب إلى إنجاز رمزي منها إلى تغيير فعلي.
وتؤكد الباحثة والناشطة خديجة أن القرار لا يزال 'نظرياً': 'سأعتبره اختراقاً حقيقياً عندما أراه مطبقاً في قانون الأسرة الجزائري. حينها فقط يمكن للمرأة أن تسافر أو تبني بيتها المستقل من دون وصاية الأب أو الزوج أو الأخ.'
وفي تجربتها الشخصية، تقول إنها عادت بعد سنوات من الغياب ولاحظت تغيّرات اجتماعية تدريجية: نساء يعملن في المدارس، وأخريات يستأجرن منازل بمفردهن، وهي ظواهر كانت قبل عقدين موصومة بالعار. لكنها في الوقت نفسه تسمع أصواتاً غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتضيف: 'أحد المعلقين كتب: 'إلى أين يذهبون بحقوق النساء؟ ماذا يريدون بعد؟''، في إشارة إلى استمرار المقاومة المجتمعية لأي خطوة نحو المساواة بين الجنسين.
هل يتغيّر قانون الأسرة الجزائري؟
قانونياً، يُقرّب رفع التحفّظ الجزائر من التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، إذ تنص المادة 151 من دستور 2020 على أن المعاهدات الدولية تسمو على القوانين الوطنية، ما يجعل هذه الخطوة ملزمة للمشرّع الجزائري. ويرى المحامي موحوس صديق أن القرار 'قد يفتح الباب أمام مراجعة شاملة لقانون الأسرة الذي ظل مثار جدل منذ صدوره عام 1984'.
ويشرح صديق لبي بي سي أن رفع التحفظ عن الفقرة الرابعة من المادة 15 في اتفاقية 'سيداو' يضع الجزائر أمام معادلة مزدوجة: الالتزامات الدولية من جهة، وخصوصيات المجتمع وقوانينه الداخلية من جهة أخرى. ويذكّر بأن الجزائر عندما أبدت تحفظها عام 1996، كان السبب قانونياً بحتاً، إذ إن قانون الأسرة حينها لم يعترف للزوجة بذمّة مالية مستقلة، ما كان سيخلق تناقضاً مباشراً مع نص الاتفاقية. لكن مع تعديل القانون عام 2005 وإضافة المادة 37 التي كرّست الذمة المالية المستقلة للزوجة، 'زالت أسباب التحفظ بزوال مبرراته'، كما يقول موحوس، معتبراً الخطوة الأخيرة 'استكمالاً لمسار بدأ منذ سنوات'.
أما عن قضية إذن الزوج أو الولي لسفر المرأة، فيوضح أن القانون الجزائري لا ينص صراحة على هذا الشرط، لكن الأعراف والتقاليد الاجتماعية كرّست هذه الممارسة داخل كثير من الأسر. ويضيف: 'أخلاقياً واجتماعياً، كانت المرأة تستأذن زوجها أو والدها قبل السفر. لكن قانونياً، لا يوجد نص يفرض ذلك. الاستثناء الوحيد يظهر إذا غادرت الزوجة البيت الزوجي بشكل دائم دون اتفاق، ففي هذه الحالة يمكن للزوج أن يرفع دعوى نشوز ضدها، وهو ما يضعها تحت طائلة العقوبات.'
وعن الإشكالات المستقبلية، يرى موحوس أن رفع التحفظ لم يعد يتعارض مع قانون الأسرة بعد تعديلات 2005، لكنه يذكّر بأن الجزائر ما زالت متحفّظة على مواد أخرى مثل المادة 29، ما يعكس أن مسار المواءمة القانونية لم يكتمل بعد. وبالنسبة للنزاعات المحتملة، يتوقع أن يظل الوضع قريباً مما هو عليه الآن: 'حتى قبل رفع التحفظ، كانت هناك خلافات زوجية بسبب عمل الزوجة أو سفرها، وغالباً ما تُحل عبر القضاء. الجديد اليوم هو أن هذه النزاعات قد تأخذ زخماً سياسياً وإعلامياً أكبر، لكنني لا أتوقع تفككاً اجتماعياً واسعاً، بل مجرد زوبعة مؤقتة تستغلها بعض الأطراف لأهداف إيديولوجية.'