لايف ستايل
موقع كل يوم -موقع رائج
نشر بتاريخ: ٣ تموز ٢٠٢٥
أحيانًا نشعر أننا لا نفهم أنفسنا. نتحدث بلغة مختلفة، فنشعر وكأننا شخص آخر. نضحك بطريقة جديدة، نُعبّر بشجاعة لم نعتدها، أو نصمت بشكل مختلف.
فهل يمكن أن تكون اللغة أكثر من كلمات؟ هل تحمل اللغة شيئًا يؤثر على مشاعرنا وأفكارنا؟
كثيرون يقولون إنهم يتغيرون حين يتحدثون لغة ثانية. في الصوت، في الأسلوب، في النظرة، وحتى في المشاعر. ومع تزايد عدد الأفراد الذين يتقنون أكثر من لغة، بات التساؤل مطروحًا بشدة: هل تؤثر اللغة على شخصية الإنسان؟ وهل يمكن للناطق بلغتين أن يمتلك “شخصيتين” تختلف كل منهما باختلاف اللغة المستخدمة؟
اللغة وبناء الهوية الشخصية
منذ الطفولة، تشكّل اللغة الأم جزءًا أساسيًا من هوية الفرد، فهي الوسيلة الأولى التي يتفاعل بها مع محيطه، ويكوّن من خلالها تصوراته عن العالم. لا تقتصر اللغة على الكلمات فقط، بل تحتوي بين مفرداتها على مجموعة من القيم الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في شخصية الإنسان وسلوكياته. ومن هذا المنطلق، فإن تعلم لغة جديدة لا يضيف فقط مهارة لسانية، بل قد يُكسب الفرد بُعدًا جديدًا في شخصيته.
أما بالنسبة للأشخاص الذين ينشأون في بيئة ثنائية اللغة منذ الطفولة، فإن تأثير اللغة على هويتهم وشخصيتهم يكون أعمق وأكثر تعقيدًا. فهم يكتسبون القدرة على التنقل بين ثقافتين أو أكثر بشكل طبيعي، مما يمنحهم مرونة فكرية ونفسية أعلى. كثير من الدراسات تشير إلى أن ثنائيي اللغة منذ الصغر يمتلكون قدرة أكبر على التكيف مع المواقف المختلفة، كما أنهم قد يشعرون أحيانًا بأن شخصياتهم تتغير وفقًا للغة التي يتحدثون بها، حيث تتشكل عواطفهم وتعبيراتهم وأساليب تفكيرهم بحسب السياق اللغوي الذي يستخدمونه.
الشخصية المتغيرة بتغير اللغة
يشير كثير من الأشخاص الذين يتحدثون لغتين إلى شعورهم باختلاف في الشخصية عند الانتقال من لغة إلى أخرى. فالبعض يصف نفسه بأنه أكثر جرأة أو انفتاحًا عند التحدث بلغة معينة، بينما يصبح أكثر تحفظًا أو رسمية بلغة أخرى.على سبيل المثال، قد يشعر شخص لغته الأم العربية بأنه أكثر انفتاحًا ومرحًا عند التحدث بالإنجليزية، بينما يكون أكثر تحفظًا وتركيزًا عند التحدث بالعربية.
اللغة والتفكير: فرضية سابير-وورف (Sapir-Whorf)
فرضية سابير-وورف، والمعروفة أيضًا باسم فرضية النسبية اللغوية، تقول ببساطة إن اللغة التي نتحدثها ليست مجرد أداة للتعبير عن أفكارنا، بل هي تشكّل طريقة تفكيرنا نفسها. بمعنى آخر، كل لغة تضع حدودًا أو تفتح آفاقًا معينة لطريقة فهمنا للعالم من حولنا.
مثلاً، في بعض اللغات لا يوجد فرق واضح بين الأزرق والأخضر كما هو موجود في اللغة العربية أو الإنجليزية، وهذا يؤثر على قدرة المتحدثين بهذه اللغات على التمييز بين هذين اللونين بسهولة أو بنفس الدقة. بمعنى أن اللغة ليست فقط وسيلة تسمية الأشياء، بل تؤثر على كيف نراها ونفهمها.
كذلك، أظهرت دراسات حديثة أن الناس الذين يتحدثون لغة أجنبية قد يكونون أكثر موضوعية وعقلانية في اتخاذ القرارات عندما يستخدمون تلك اللغة، لأن العلاقة العاطفية تكون أضعف مقارنة بلغتهم الأم، مما يقلل من تأثير المشاعر على خياراتهم.
هذه الفرضية تعني أن اللغة تصنع لنا إطارًا خاصًا في الذهن، يؤثر على إدراكنا للعالم، مشاعرنا، وحتى سلوكياتنا. لذلك، عندما ننتقل من لغة إلى أخرى، قد نغير ليس فقط الكلمات التي نستخدمها، بل أيضًا الطريقة التي نفكر ونتفاعل بها.
وهذا يدل على أن اللغة قد تخلق إطارًا إدراكيًا خاصًا يؤثر على فهمنا للمواقف وتصرفاتنا فيها.
الدماغ واللغة : منظور علم الأعصاب
تُظهر الدراسات الحديثة في علم الأعصاب أن دماغ الأشخاص الذين يتحدثون لغتين أو أكثر يتعامل مع هذه اللغات بطريقة معقدة ومميزة. فبدلاً من تخزين كل لغة في مكان واحد فقط، يقوم الدماغ بمعالجة كل لغة في مناطق متداخلة لكن لها خصائص خاصة تعتمد على عوامل مثل عمر تعلم اللغة، مدى الطلاقة، والبيئة التي تُستخدم فيها.
وباستخدام تقنيات تصوير الدماغ مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، تبين أن نشاط الدماغ يتغير حسب اللغة التي يتحدث بها الفرد. فعند التحدث باللغة الأم، تنشط مناطق مرتبطة بالعاطفة والذاكرة بشكل أكبر، أما عند استخدام لغة ثانية تعلمت في مرحلة متأخرة فقد يظهر نشاط أكبر في المناطق المرتبطة بالانتباه والتركيز الذهني. هذا الاختلاف قد يفسر لماذا يشعر البعض بأنهم يتصرفون أو يفكرون بطريقة مختلفة عند استخدام لغة معينة.
أما الأشخاص الذين ينشأون في بيئة ثنائية اللغة منذ الصغر، فيعيشون تجربة تؤثر على تكوين شخصيتهم بطرق متعددة. فالتحدث بلغتين يساعدهم على تشكيل هوية متعددة الأبعاد، ويشعرون أحيانًا أنهم يعبرون عن جوانب مختلفة من أنفسهم حسب اللغة المستخدمة. وقد أكدت دراسة للباحثة إلين بيايليستوك، إحدى أبرز المختصين في مجال اللغتين، أن الأطفال الذين يتعلمون لغتين منذ الصغر يتمتعون بمهارات عالية في التحكم الانتباهي والمرونة الإدراكية، مما يساعدهم على أداء مهام مختلفة بكفاءة. كما أن اكتسابهم للغتين في وقت واحد يمنحهم قدرة طبيعية على التبديل بين السياقات الثقافية واللغوية، ويزودهم بمرونة ذهنية ونفسية أكبر من غيرهم.
دراسة نُشرت في مجلة Bilingualism: Language and Cognition أن دماغ ثنائيي اللغة يعالج كل لغة في مناطق مختلفة، ويتغير نشاط الدماغ عند التبديل بين اللغتين، مما يؤثر على طريقة التفكير والسلوك.
دراسة في مجلة Brain and Language أن ثنائيي اللغة يظهرون نشاطًا في مناطق الدماغ المسؤولة عن التحكم التنفيذي أثناء معالجة اللغة، مما يعكس تأثيرًا عميقًا لتعدد اللغات على وظائف الدماغ.
المرونة النفسية الناتجة عن تعدد اللغات
لا يعني اختلاف الشخصية بالضرورة ازدواجية، بل يمكن النظر إليه كنوع من المرونة النفسية والسلوكية. فإتقان أكثر من لغة يتيح للإنسان التنقل بين أنماط تفكير متعددة، والانفتاح على ثقافات مختلفة، وفهم أعمق للآخرين. ومع الوقت، تصبح هذه القدرة على التبدّل بين “الشخصيات اللغوية” مهارة تساعد على التكيّف والتواصل بثقة في بيئات متنوّعة.
اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل طريقة لرؤية العالم. عندما نتعلّم لغة جديدة، لا نكتسب كلمات وقواعد فحسب، بل نقترب من طريقة تفكير مختلفة، من مشاعر تُقال بصيغ جديدة، ومن ثقافة تعيد تشكيل نظرتنا للأشياء – ولأنفسنا أيضًا.
لهذا، يُنظر لتعلّم اللغات كفرصة لاكتشاف الذات، وزيادة الانفتاح العقلي والعاطفي. فكل لغة نتعلّمها تزرع فينا مرونة جديدة، وتفتح لنا بابًا نحو نسخة أوسع وأعمق من ذواتنا.
الخاتمة
كشخص يتحدث لغتين، ألاحظ أنني أفكّر وأعبّر في كل لغة بأسلوب مختلف قليلًا، بحسب السياق والموقف.. أحيانًا تكون الكلمات والمشاعر في إحداهما أقرب إلى قلبي، وأحيانًا في الأخرى. هذا يجعلني أرى نفسي بشكل مختلف مع كل لغة أستخدمها.