تنفي باماكو رسمياً أي وجود للجماعات الإرهابية والأزوادية على أراضيها

أثار انسحاب قوات مجموعة 'فاغنر' شبه العسكرية الروسية من مالي موجة من القلق الإقليمي والدولي، في ظل التدهور الأمني الذي تشهده منطقة الساحل حيث تواجه الجزائر ودول الجوار تحديات متزايدة مرتبطة بتصاعد التهديدات الإرهابية وانكشاف الفجوات الأمنية. وكشف انسحاب 'فاغنر' من مالي هشاشة التوازنات الأمنية في منطقة الساحل، ووضع الجزائر أمام تحديات متعددة أبرزها مواجهة تداعيات محتملة على حدودها الجنوبية، والمساهمة في صياغة حلول إقليمية واقعية، وتبقى القدرة على التحرك الدبلوماسي والعسكري الذكي، مع الحفاظ على مبدأ عدم التدخل، عنصراً حاسماً على المحك في المرحلة المقبلة.

تحول استراتيجي

وأعلنت مجموعة 'فاغنر' انسحابها النهائي من مالي، بعد نحو أربع سنوات هناك، بطلب من المجلس العسكري الحاكم، بذريعة محاربة الجماعات الإرهابية والأزوادية، في وقت تنفي باماكو العاصمة، رسمياً، أي وجود لها على الأراضي المالية.

ويأتي انسحاب قوات 'فاغنر' التي دعمت نظام باماكو بعد انسحاب القوات الفرنسية، نتيجة تغيرات في قيادة الكرملين بعد وفاة يفغيني بريغوجين (قائدها الراحل)، وتوجه روسيا نحو إعادة هيكلة حضورها العسكري في أفريقيا عبر وزارة الدفاع، إذ مع مغادرة هذه القوة المؤثرة، تفقد مالي ذراعاً رئيسة كانت تؤمن مناطق واسعة وتشارك في مواجهة الجماعات المسلحة خصوصاً في مناطق الشمال. هذا الانسحاب لا يؤثر فقط على مالي، بل يعيد رسم خريطة النفوذ في الساحل، ويترك فراغاً قد تسعى أطراف إقليمية ودولية لملئه، مثل روسيا الرسمية، تركيا، الصين، وحتى بعض القوى الغربية التي غادرت سابقاً تحت ضغط رفض شعبي وحكومي.

وقال 'فيلق أفريقيا'، وهو قوة شبه عسكرية خاضعة لسيطرة الكرملين، في السادس من يونيو (حزيران) الماضي، إنه 'سيبقى في مالي بعد مغادرة مجموعة فاغنر في أعقاب قتالها متشددين إسلاميين'. وأوضح الفيلق على قناته على 'تيليغرام' أن رحيل 'فاغنر' لن يتسبب في أي تغييرات لأن الفيلق الروسي سيبقى في مالي. وقال أولف ليسينج رئيس برنامج الساحل في مؤسسة 'كونراد أديناور' الألمانية، في تصريحات صحافية، إن روسيا تسعى إلى استبدال 'فاغنر' في مالي بـ'فيلق أفريقيا'، منذ فترة، مضيفاً أن 'تولي فيلق أفريقيا للمهمة يعني استمرار المشاركة العسكرية الروسية في مالي، لكن التركيز قد يتحول أكثر نحو التدريب وتوفير العتاد، وبدرجة أقل نحو قتال المتشددين'.

وضع مقلق

وقال الصحافي الموريتاني إبراهيم مصطفى، 'إن بعض التحليلات مبنية على معطى غير دقيق حول الوضع في مالي، لأن انتهاء مهام فاغنر لم يخلف فراغاً مطلقاً، فقد تم استبدالها بقوة روسية شبه رسمية تسمى الفيلق الأفريقي'، وأوضح مصطفى أن 'مصادر مالية مطلعة تفيد بأن وزارة الدفاع الروسية بصدد دمج بعض عناصر فاغنر ضمن هذا الفيلق، وبناء عليه فإنه يمكن القول إن الوجود العسكري الروسي في مالي، بل حتى في دول تحالف الساحل الثلاث (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) لم يتراجع بل تعزز'، وعد أن الحديث عن تهديدات مستجدة غير وارد من زاوية انتهاء مهام قوات 'فاغنر'، ولكن الوضع في وسط وجنوب مالي مقلق إلى أبعد الحدود، بعد تكثيف جبهة 'ماسينا' التي تمثل رأس الحربة في جماعة 'نصرة الإسلام والمسلمين' المرتبطة بتنظيم 'القاعدة'، عملياتها بصورة غير مسبوقة. وأضاف أن جبهة 'ماسينا' كبدت الجيش المالي خسائر فادحة منها تدمير قواعد ومعسكرات استراتيجية، وبدأ بعض قياداتها الحديث عن إقامة 'دولة إسلامية' على أراضي وسط وجنوب مالي، مشيراً إلى أن هذا المشروع، لو تحقق، ستترتب عليه تغييرات جيوسياسية تطاول جميع دول المنطقة.

اختبار ميداني

وتجد الجزائر نفسها، اليوم، في موقع متقدم ضمن المعادلة الأمنية للساحل، حيث تمثل الحدود الجنوبية مع مالي أحد أبرز مصادر التهديد المتعدد الأبعاد: تهريب السلاح، نشاط الجماعات الإرهابية، والهجرة غير النظامية. ومع انسحاب 'فاغنر'، من المتوقع أن تتضاعف الضغوط على الجزائر التي اعتمدت، خلال الأعوام الماضية، مقاربة مزدوجة تقوم على دعم الاستقرار السياسي في مالي وتكثيف المراقبة الأمنية عبر الحدود. وتخشى الجزائر من احتمال تصاعد العمليات الإرهابية في المناطق الحدودية، لا سيما إذا تمكنت جماعات كـ'القاعدة' في بلاد المغرب الإسلامي، و'داعش- الصحراء الكبرى'، من استعادة حرية الحركة. وبغياب قوة عسكرية مثل 'فاغنر'، يطرح، مجدداً، سؤال التعاون الأمني الإقليمي، خصوصاً في ظل ضعف فعالية 'مجموعة دول الساحل الخمس' بعد انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ومحاولات إنشاء تكتل جديد يضم هذه الدول الثلاث، ويبرز هنا الدور الذي قد تلعبه الجزائر التي تملك تجربة طويلة في مكافحة الإرهاب، وكمحاور دولي يحظى بقبول من جميع الأطراف. ويرى متابعون أن الجزائر مدعوة، اليوم، إلى تعميق تنسيقها مع نواكشوط وتشاد، وربما الانتظام أكثر في الوساطات السياسية لضمان استقرار مالي، إذ إن زعزعة الأمن هناك ستكون لها كلفة مباشرة على الأمن القومي الجزائري.

عمليات مركزة

وشدد المحلل السياسي الجزائري محمد سي بشير على ضرورة معالجة الأمر من زاوية حقيقة الانسحاب بعدما مررت 'فاغنر' المنسحبة المشعل لـ'الفيلق الأفريقي'، وهما جهازان أمنيان روسيان مع فارق أن العمليات الأمنية أصبحت مركزة. وقال سي بشير، إن الأمر يأتي بعد سحب روسيا عتادها العسكري من طرطوس على الساحل السوري، إلى شرق ليبيا، في إطار تعاون بين حفتر (المشير خليفة حفتر قائد ما يعرف بـ'الجيش الوطني الليبي')، وروسيا، لإرساء التأثير الروسي، من قاعدة بنغازي، في تشابه تام مع إرساء حلف 'الناتو' تأثيره، من قاعدة 'دييغو غارسيا' في ساحل القرن الأفريقي، جنوباً، وقواعد جنوب إيطاليا شمالاً.

وبخصوص تأثر منطقة الساحل بهذا الانسحاب بتغيير المقاربة الروسية، أضاف 'أمنياً، لا أحد يدري مدى هذا التأثر، مع العلم أن روسيا أخذت درساً في محاربة الجماعات الانفصالية في شمال مالي، وألحقت بها هزائم كثيرة، إضافة إلى الموقف الحازم الجزائري المتمثل في رفض الوجود الروسي، وعدم التحكم في طبيعة المنطقة بعد إسقاط الجزائر المسيرة التي حاولت اختراق حدودها (في أبريل (نيسان) الماضي). وتابع سي بشير 'مجرد تغيير روسيا مقاربتها يعد انتصاراً مرحلياً للمقاربة الجزائرية التي تتعامل بثنائية دبلوماسية – أمنية، وهو ما تحدث عنه أحمد عطاف وزير الخارجية الجزائري عندما قال إن مصير الوضع هو ضرورة العودة إلى التفاوض وفق مرجعية اتفاق السلم بين حكومة باماكو وجماعات الأزواد في الشمال، الموقع في الجزائر عام 2015'.

سيناريوهات مفتوحة

وتتعدد السيناريوهات المحتملة لما بعد انسحاب 'فاغنر'، أحدها يشير إلى إمكان أن تستعيد الجماعات المسلحة نشاطها في شمال ووسط مالي، مع ما يرافق ذلك من تدفق نازحين ولاجئين نحو الحدود الجزائرية، بينما يفترض سيناريو آخر دخول أطراف دولية جديدة قد تعرض دعماً مشروطاً لحكومة باماكو، مما يعيد البلاد إلى دائرة التبعية والتدخلات الأجنبية.

في المقابل، قد تستغل الجزائر الفرصة لتعزيز دورها في هندسة حل إقليمي طويل الأمد، يقوم على الأمن الجماعي، دعم التنمية المحلية، والمصالحة الداخلية في مالي، خصوصاً بعد فشل كل التجارب العسكرية الخارجية في فرض الاستقرار بالقوة.

وقال المحلل السياسي الموريتاني المتخصص في شؤون أفريقيا والساحل سلطان البان، إن انسحاب قوات 'فاغنر' سيقلص المخاوف الجزائرية من وجود قوات غير نظامية قرب حدودها الجنوبية خصوصاً بعدما أثارته هجمات 'فاغنر' على قرى تينزاواتين قرب الحدود الجزائرية التي أثارت وقتها أزمة دبلوماسية بين مالي والجزائر. وأفاد البان بأن 'الجزائر ضغطت، بصورة كبيرة، على روسيا في هذا الاتجاه، عبر سلسلة لقاءات، بما في ذلك اجتماع جمع وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف ونظيره الروسي سيرغي لافروف مطلع عام 2025'. وأضاف أن 'هذا الانسحاب، لا شك أنه يعزز الدور الإقليمي للجزائر، ويرسخ الجزائر كفاعل أساسي، أو في الأقل، يعيد لها الدور الذي طالما أرادت أن تلعبه في حل أزمات الساحل، سواء من خلال قيادة مبادرات أو احتضان اجتماعات لحل بعض الأزمات الإقليمية، بما يوافق الحلول السياسية التي ترفع شعارها بدلاً من التدخلات العسكرية الخارجية، بالرجوع إلى الاتفاقية التي رعتها الجزائر عام 2015 والموقعة بين المجموعات المسلحة الأزوادية والحكومة المالية'. وتابع سلطان البان 'لكن يجب ألا نغفل نقطة مهمة جداً، وهي أن انسحاب فاغنر لن يزيل كل الأخطار والقلق الذي تبديه الجزائر لأنها ستبقى تترقب، بصورة حثيثة ودقيقة، أنشطة هذا القادم الجديد (الفيلق الروسي) الذي حل في صورة أكثر نظامية لأن الفيلق الروسي يتبع، بصورة مباشرة، وزارة الدفاع الروسية وهو تحت إشراف نائب وزير الدفاع الروسي'، ولفت إلى أن 'موسكو تريد، من خلال هذا الفيلق، تحسين صورتها في أفريقيا مع استمرار ما تعهدت به تجاه الدول التي تقودها مجالس عسكرية انتقالية، ولا شك أن نشاط الفيلق سيكون أقل من فاغنر من ناحية التدخلات العسكرية والتوجه نحو العنف وسيركز على التدريب والدعم اللوجيستي'.

مخاوف موريتانية

من جانب آخر، أشار المتحدث إلى أن موريتانيا سبق أن تجرعت مرارة هذا الوجود العسكري 'فاغنر' على حدودها الشرقية، خصوصاً بعد اختراق هذه القوات حدود موريتانيا وتهديدها المباشر قريتي بئر الله، ودار النعيم الموريتانيتين، مما دفع نواكشط لإرسال تعزيزات عسكرية لحدودها الشرقية، وإجراء مناورات عسكرية في رسالة واضحة أن موريتانيا لم تكن راضية عن نشاط القوات الروسية على حدودها.

وعلى رغم أن انسحاب 'فاغنر' سيزيل مخاوف نواكشوط بوقف اختراق حدودها، تابع البان، فإن هناك مخاوف موريتانية من تزايد نشاط الجماعات المسلحة مثل تنظيم 'نصرة الإسلام والمسلمين' التي أغارت على ثكنات عسكرية، في الفترة الأخيرة، وقتلت كثيراً من الجنود الماليين، خصوصاً في ظل ضعف الجيش المالي مما يبقي الخطر الأمني قائماً في المناطق الشرقية لموريتانيا.

وذكر المحلل السياسي أن التداعيات الإقليمية المشتركة تفاقمت بعد انسحاب 'كونفيدرالية دول الساحل' (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) من منظمة دول غرب أفريقيا 'إيكواس'، وتوجه هذه الدول نحو شراكات أمنية بديلة مع روسيا، مما يفرض على الجزائر وموريتانيا تطوير استراتيجيات تنسيقية جديدة، طبقاً لهذا التحول الإقليمي في العلاقات الخارجية لهذه الدول. وأشار سلطان البان إلى أن تشكيل فيلق أفريقي روسي في المنطقة، كنشاط عسكري جديد في منطقة ترتبط في ما بينها، بصورة مباشرة، يعد امتداداً جديداً للنموذج الروسي في المنطقة، لكن بأساليب أقل مباشرة مما يحد من الاحتكاك العسكري مع الجزائر لكنه يحافظ على تأثير موسكو الجيوسياسي.

وخلص إلى القول إن 'هذا التحول وتصاعد هجمات الجماعات المتشددة، يثير مخاوف الجزائر ونواكشوط من وصول المتطرفين إلى باماكو، مما قد يحول هذه الأزمة إلى تهديد عابر لحدود هذه الدول، خصوصاً إذا فشلت القوات المالية في ملء الفراغ الأمني، وفقدان سيطرتها على المناطق الشمالية'.