اخبار جيبوتي
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
في الخطاب القومي لأديس أبابا يظهر تعبير 'أمة محاصرة باليابسة'
تقول الحكاية الشعبية، التي يتداولها بعض الأوساط في إثيوبيا، إن اللعنة التي أصابت الإمبراطورية الإثيوبية كانت بفعل خطيئة ارتكبها أحد أباطرة مملكة 'أكسوم'، عندما رفض منح اللجوء لقافلة كانت تسعى إلى الوصول إلى البحر هرباً من الجفاف. ويروى أن شيخاً من القافلة دعا عليه قائلاً 'ستموت أرضك عطشاً، ولن تعرف طعم البحر أبداً'.
ويعتقد أن تلك النبوءة تحققت على مرحلتين، الأولى، على رغم حضارة 'أكسوم' التي كانت تمتد إلى البحر الأحمر، لكن بحلول منتصف القرن الـ16، اشتد الصراع بين الحضارتين الحبشية والصومالية. وفي نهاية القرن، حرم القائد أحمد جوري، الذي نظم الجيش الصومالي الأكثر تطوراً، الحبشة من أي فرصة للوصول إلى البحر، حيث استولى على مناطق واسعة حتى غوندر (تقع على بعد نحو 780 كيلومتراً من العاصمة أديس أبابا)، جاعلاً طموح الحبشة في الوصول إلى البحر سراباً بعيداً، ولكن لم يقض ذلك على هذا الطموح، فقد برز من صراع داخلي على السلطة، الملك يوهانس ملك 'تيغراي' وتيودروس ملك 'غوندر'، وأعادا إحياء هذا الحلم. عام 1862 عرض تيودروس، على الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا، تحالفاً مقابل منحها حق الوصول إلى موانئ المنطقة المتعددة. وكان الإمبراطور منليك هو من ضاعف جهوده في البحث عن ميناء، كما ناشد منليك، الذي اشتهر بنصره في معركة عدوة (معركة عدوة وقعت عام 1896 عندما حاولت إيطاليا غزو إثيوبيا)، ووضع إثيوبيا في قلب الدبلوماسية العالمية، الأوروبيين لمساعدته في تأمين الوصول البحري.
أما المرحلة الثانية فهي في إثيوبيا الحديثة، وهي الدولة الوحيدة في القرن الأفريقي التي فقدت منفذها إلى البحر الأحمر بعد استقلال إريتريا عام 1993، ولم تتكيف قط مع هذا الواقع. فالتاريخ الإثيوبي لا سيما خلال الحقبة الأكسومية كان مرتبطاً بالبحر عبر ميناء 'عدوليس'، الذي شكل نافذتها التجارية على العالم. هذا الانفصال الجغرافي عن البحر، بقدر ما هو انعكاس لوقائع سياسية تاريخية وحديثة، فإنه يحمل في الأدبيات الإثيوبية أبعاداً رمزية وسيادية، حتى بات ينظر إليه كجرح مفتوح في الجسد الجيوسياسي للدولة التي حرمت فعلياً من منفذ بحري. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا الحرمان من البحر هو 'لعنة تاريخية' يجب كسرها، وتحولت هذه الحكاية مع الزمن إلى سردية قومية تبرر الطموح الإثيوبي لاستعادة منفذ إلى البحر.
في الخطاب القومي الإثيوبي، خصوصاً بين بعض النخب والمفكرين، يظهر تعبير 'أمة محاصرة باليابسة'، ويعكس ذلك طموحات إثيوبيا البحرية النابعة من شعور تاريخي عميق بحصار يتجاوز الجغرافيا إلى تخوم الهوية والسيادة والدور الإقليمي.
وفي خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 أمام البرلمان، أشار إلى أن 'عدداً قليلاً فقط من دول العالم محاط باليابسة، وهذا أمر غير طبيعي لدولة عظيمة مثل إثيوبيا'، وقد فسر بعض المتابعين هذا التصريح كامتداد للرؤية الرمزية المرتبطة بتلك 'الأسطورة'.
لم يكن الخطاب مجرد تعبير عن طموح اقتصادي أو مصلحة لوجيستية، بل حمل نبرة وجودية وتهديداً مبطناً، بأن الصبر الإثيوبي قد بلغ حده، وأن الخيار العسكري لم يعد مستبعداً، حين قال 'لا يمكن لـ150 مليون نسمة أن يعيشوا في سجن جغرافي، إن استمرت بلادهم محرومة من منفذ بحري'، أراد آبي أن يحدث صدمة سياسية، ملوحاً بالقوة.
يستدعي هذا التصعيد الخطابي نماذج تاريخية حديثة، فالصين في بحرها الجنوبي فرضت واقعاً جيوسياسياً جديداً بالاعتماد على أدوات القوة البحرية والانتشار العسكري، مستندة إلى سردية تاريخية وسيادة غير معترف بها دولياً. وروسيا حينما اجتاحت وضمت شبه جزيرة القرم عام 2014 كان ذلك تحت مبررات تتعلق بالأمن القومي والانتماء التاريخي، متجاهلة الترتيبات القانونية الدولية. كلا النموذجين رسخ فكرة أن الوصول إلى المياه الحيوية يمكن أن ينتزع بالقوة، لا يمنح بالدبلوماسية وحدها.
وبينما بدا خطاب آبي امتداداً لهذا المنطق، ومرآة لهذه المقاربات الواقعية، سرعان ما ظهر في مناسبة أخرى، وهو يخاطب قواته في الـ25 من الشهر ذاته، قائلاً 'نحن ملتزمون المصلحة المشتركة، ولن نسعى إلى تحقيق أهدافنا عبر الحرب'. وأضاف أن رغبة إثيوبيا في الوصول إلى منفذ بحري تتم من خلال الحوار والنقاش السلمي. وأمَّن على قوله المتحدث باسم وزارة الخارجية نيبات غيتاتشو بأن الطريقة التي تسعى بها إثيوبيا إلى تأمين منفذ بحري موثوق ومستدام هي من خلال جهود دبلوماسية سلمية قائمة على التعاون والمنفعة المتبادلة، وعبر المفاوضات والحوار البناء. هذا التحول من خطاب مهدد إلى لغة دبلوماسية لا يفهم كتناقض، بل كمناورة محسوبة توازن بين الضغط النفسي الإقليمي وطمأنة المجتمع الدولي.
بعد عقود من الصراع ثم المصالحة، ومرحلة قصيرة من التحالف في حرب 'تيغراي'، تعود العلاقات بين أسمرا وأديس أبابا إلى حال من التوجس المتبادل، تحركها حسابات تاريخية معقدة وتطلعات استراتيجية متعارضة. فمنذ استقلال إريتريا عام 1993 ظل النزاع مع إثيوبيا حول السيادة والحدود مصدراً دائماً للعداء، وتوج هذا الخلاف بحرب مدمرة بين عامي 1998 و2000، خلفت عشرات الآلاف من القتلى. وعلى رغم اتفاق السلام الموقع عام 2018 بين آبي أحمد والرئيس أسياس أفورقي، الذي أنهى توتراً استمر عقدين، فإن التحالف لم ينج من تناقضاته البنيوية، خصوصاً بعد الحرب في 'تيغراي' التي اشتركت فيها القوات الإريترية بدافع تقاطع المصالح الموقت، قبل أن يتراجع هذا التعاون مع توقيع اتفاق بريتوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022.
في هذا السياق يبدو التوجس الإريتري من الطموح الإثيوبي بالوصول إلى منفذ بحري أكثر من مبرر. تصريحات أفورقي الأخيرة، ونعته طموحات إثيوبيا بـ'المتهورة'، تعبر عن قلق حقيقي من سعي أديس أبابا إلى ضم ميناء 'عصب' إلى تصورها الاستراتيجي، سواء عبر تفاوض ضاغط أو خيارات أكثر صدامية. وتاريخياً، ترى أسمرا في السيطرة الإثيوبية على أي منفذ على البحر الأحمر تهديداً مباشراً لسيادتها، وتقويضاً لميزتها الجيوسياسية النادرة في إقليم يتنافس على المنافذ والموانئ.
في المقابل، توظف إريتريا موقعها البحري كورقة ضغط فائقة الفعالية. فهي تتحكم في موانئ استراتيجية كـ'عصب' و'مصوع'، وتدرك أن إثيوبيا، الدولة الحبيسة، لا يمكنها تحقيق طموحاتها التجارية والعسكرية من دون منفذ بحري. ومن هنا، تتقاطع المصالح مع أطراف أخرى كالقاهرة، التي ترى في التحالف مع أسمرا وسيلة لتقييد النفوذ الإثيوبي، خصوصاً في ظل النزاع المحتدم حول سد النهضة.
واقع العلاقة بين أسمرا وأديس أبابا يتجاوز الثنائية السياسية، لتصبح جزءاً من معمار إقليمي هش، فالتوتر الصامت، المصحوب بذكريات العداء وغياب الثقة، يشكل عقبة بنيوية أمام أي تصور إثيوبي للولوج إلى البحر عبر الأراضي الإريترية. كما أن إريتريا، التي تعتبر نفسها دولة قائمة على الاستقلال عن إثيوبيا، تنظر بعين الريبة إلى كل تحرك إثيوبي باتجاه البحر حتى لو لم يكن ضمن حدودها البحرية.
في يناير (كانون الثاني) 2024 وقع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس صوماليلاند موسى بيحي عبدي، مذكرة تفاهم تسمح لإثيوبيا بالوصول إلى البحر الأحمر عبر ميناء 'بربرة' مقابل اعتراف محتمل من إثيوبيا باستقلال صوماليلاند. هذا الاتفاق، الذي تضمن بنوداً غير معلنة، يعتقد أنه يشمل تعاوناً عسكرياً إضافة للاعتراف الدبلوماسي بصوماليلاند، وفتح الباب أمام سلسلة من التجاذبات الإقليمية الحادة، وأعاد تشكيل خطوط التماس السياسي في القرن الأفريقي.
تسعى أديس أبابا إلى كسر اعتمادها شبه الكامل على موانئ جيبوتي، في ظل تدهور العلاقات معها وارتفاع الكلف السياسية والاقتصادية للوصول البحري التقليدي. وقد رأت في صوماليلاند، التي تتمتع باستقرار نسبي ومؤسسات حوكمة فعلية، فرصة واقعية لمد شريان حيوي إلى البحر، بعيداً من الحسابات المعقدة في كل من جيبوتي وإريتريا.
من جانبها، تنظر صوماليلاند إلى الاتفاق كرافعة سياسية تعزز سعيها إلى الانفصال الكامل عن مقديشو، لا سيما في ظل الرفض الدولي المستمر للاعتراف بها كدولة ذات سيادة، بينما تمسكت الصومال بموقف حازم، واعتبرت الاتفاق 'انتهاكاً سافراً' لوحدة أراضيها، بدعم واسع من شركاء إقليميين ودوليين.
جيبوتي، التي شعرت بتآكل دورها الجيوسياسي، اتجهت إلى التقارب مع مصر وإريتريا، لتشكيل جبهة معارضة للطموحات الإثيوبية المتزايدة، وهو ما عمق من عزلة أديس أبابا في محيطها البحري. وفي المقابل اتخذت إريتريا موقفاً أكثر حدة، رافضة أي توسع إثيوبي بحري، انطلاقاً من رؤيتها الأمنية والسيادية على البحر الأحمر.
وبينما يرى بعض المتابعين في الاتفاق سلوكاً أحادياً متهوراً، يقرأه آخرون كخطوة استباقية ضمن إعادة تموضع استراتيجي فرضته الضرورات الجغرافية والتحولات الإقليمية، ففي بيئة أمنية هشة، وسياق دولي مضطرب، لا تبدو مذكرة التفاهم هذه انحرافاً عن المألوف بقدر ما تمثل تعبيراً جريئاً عن طبيعة توازنات القوة الجديدة في القرن الأفريقي.
في ضوء التصريحات الأخيرة الصادرة عن دوائر إثيوبية نافذة، تتضح ملامح مفترق طرق استراتيجي أمام إثيوبيا في مسعاها التاريخي للولوج إلى البحر الأحمر. تتحرك إريتريا لتقويض أي مساعٍ إثيوبية عبر إعادة بناء تحالفاتها الإقليمية وتوظيف خطاب السيادة الصارم، إلى جانب ضبط تحركات المكونات الإثنية الحدودية، بما يضمن عدم تحولها إلى 'حصان طروادة' لمصلحة أديس أبابا. كما أن أديس أبابا، إن لم توازن بين الخطاب والممارسة، قد تجد نفسها في عزلة دبلوماسية، لا سيما إذا فسرت تحركاتها كتهديد للحدود الموروثة، ومبدأ عدم المساس بها. ومع محدودية السيناريوهات، فإن الواقعية منها تظل مشروطة بمزيج من الموقفين الإثيوبي والإريتري، والسياق الإقليمي والدولي.
السيناريو الأول يتمثل في إعادة إحياء فكرة الاتحاد أو الكونفيدرالية بين إثيوبيا وإريتريا، استناداً إلى الروابط اللغوية والثقافية والاجتماعية المتجذرة بين بعض القوميات العابرة للحدود، كـ'العفر' و'تيغراي'. ويعد هذا الخيار نظرياً الأكثر سلمية، إذ يقوم على إرادة طوعية وتفاهم سياسي يراعي دروس تجربة الاتحاد السابقة (1952-1962)، لكن واقعياً يبدو أن الجراح التاريخية والريبة السياسية لا تزال تحول دون تحقيق مثل هذا الطموح، ما لم تحدث تحولات جذرية في النخب والسياسات لدى الطرفين.
السيناريو الثاني، 'تبادل الأراضي' القائم على منطق براغماتي مستوحى من تجارب دولية، ويفترض ذلك أن ترتيبات برية معينة قد تمكن إثيوبيا من الحصول على ممر بحري مقابل تنازلات حدودية أو استراتيجية، إلا أن هذا السيناريو يصطدم بتصلب إريتري تقليدي حيال السيادة، وبتوازنات داخلية إثيوبية قد لا تتحمل كلفة التفريط الرمزي في أراض مقابل البحر.
السيناريو الثالث الأكثر إثارة للجدل هو ذلك المرتبط بتصاعد الخطاب القومي حول 'الحق التاريخي في البحر'، الذي يستدعي رمزية الأسلاف كهيلا سيلاسي، ويستند إلى الكثافة السكانية كعنصر تفوق جيوسياسي. غير أن هذا الخطاب، الذي يتأرجح بين الحدة والدبلوماسية، يحمل أخطاراً حقيقية، فهو قد يفهم كتلميح ضمني لإمكان استخدام القوة أو التهديد بها، مما يضع إثيوبيا أمام معضلة توازن بين الطموح المشروع وواقعية القوة والردع.