توازن المسيّرات

نجاح المسيّرة 'حسان' في الطيران وتنفيذ مهامها فوق فلسطين، وفشل العدو في إسقاطها، يترجمان فعلياً مضامين خطاب السيد حسن نصر الله الذي حمل رسائل ردع شديدة الأهمية في ذكرى الشهداء القادة.

في مناسبة بالغة الدلالة والرمزية بالنسبة إلى المقاومة اللبنانية، أتت مواقف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، متناسبةً من ناحية أهمية مضامينها مع مكانة القادة الشهداء الذين اغتيلوا في الشهر نفسه خلال سنوات مختلفة من مسيرة المقاومة.

توجه الخطاب إلى العدو الإسرائيلي بصورةٍ أساسية، وتفرعت منه إشارات ودلالات باتجاهاتٍ مختلفة، وفق أسلوب شامل وتكاملي، كما عادة خطابات نصرالله التي تتضمن الموقف السياسي والرسالة الحربية المرتبطة بالردع والشروحات المنطقية لهذين المسارين، مع إحاطةٍ استراتيجية تضعهما في سياقٍ سياسي واحد، إضافة إلى تفنيد مواقف المشككين والمعارضين وفق تفصيل دقيق واختبارات منطقية لكل بند اتهام أو ادعاء، وردود تتناسب معها وتسد ثغراتها، وتقدم خطاب تعبئة ثقافية وسياسية للجمهور المؤيد، يجعله محصناً في مقابل الوجوه المختلفة لمعركة الوعي وأساليب الحرب الناعمة التي ينتهجها الكيان ضد المقاومة.

وحمل الخطاب الأخير كشفاً عن تطورٍ شديد الأهمية في سياق قدرات الردع عند المقاومة، حين أعلن السيد نصرالله أن المقاومة بدأت منذ سنوات بصناعة الطائرات المسيّرة بنفسها في لبنان، وأنها باتت تمتلك القدرة على 'تحويل الصواريخ الموجودة لديها بالآلاف إلى صواريخ دقيقة'، رابطاً ذلك بحقيقة سير الاحتلال المأزوم باتجاه الانحدار.

بعد ساعاتٍ قليلةٍ فقط من خطاب الأمين العام لحزب الله، جاء التعبير العملي عن التحول الذي أعلنه قائد المقاومة اللبنانية، إذ أعلنت الأخيرة، في بيان، نجاح طائرة مسيرة تابعة لها بالطيران فوق منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة لمدة 40 دقيقة متواصلة، وتنفيذ مهمة استطلاعية ناجحة، وعودتها سالمة إلى لبنان بعد فشل الاحتلال الإسرائيلي في اعتراضها، واعترافه بهذا الفشل، وبعدم قدرة الصواريخ الاعتراضية على إسقاطها.

كما أن الرد الإسرائيلي على تحليق المسيرة 'حسان' فوق الأراضي المحتلة كان مليئاً بالمعاني أيضاً، فقد أجرت طائرتان حربيتان تابعتان له مناورة وهمية على علوٍ منخفض فوق العاصمة اللبنانية مباشرةً بعد بيان المقاومة، فماذا يعني ذلك؟

إن استرجاع السياق السابق لهذه الأحداث يفيد في الإجابة عن هذا السؤال. خلال المرحلة الماضية، كثرت الأحداث الأمنية التي يعلن فيها الكيان استهداف أعدائه بالطائرات المسيرة، إضافة إلى تكرّر أحداث غامضة لم يُعلن طرفا الصراع تفاصيلها.

كما تكررت خلال هذه المرحلة أحداث إسقاط مسيّرات على الحدود اللبنانية الفلسطينية، مثل إسقاط المقاومة مسيرة إسرائيلية قرب بلدة بليدا في جنوب لبنان بداية الشهر الجاري، وإسقاط مسيرة أخرى فوق الجنوب اللبناني في تموز/يوليو الماضي، وواحدة فوق الجولان السوري المحتل في أيلول/سبتمبر 2021، وأخرى فوق جنوب لبنان خلال الشهر نفسه.

في مقابل ذلك، كان الاحتلال الإسرائيلي يعلن بصورة متكررة إسقاط مسيّرات تابعة للمقاومة على الحدود وفوق الأراضي المحتلة. لقد تصاعدت قيمة المسيّرات في هذا الصراع خلال السنوات القليلة الماضية، وحازت مكانة مهمة جداً في تسجيل النقاط والتعبير عن قدرة المقاومة وقوتها، كما كان الاحتلال يعبر عن قدرته على الوصول إلى مواقع ونقاط في العمقين اللبناني والسوري من خلال مسيّراته.

لكن تحليق الطائرة 'حسان' لمدة زمنية كبيرة نسبياً (40 دقيقة)، وعلى مساحة 70 كيلومتراً مربعاً، وحدوث ذلك بعد إعلان السيد نصر الله تحقق قدرة المقاومة على تصنيع الطائرات المسيرة منذ سنوات، وإشارته ممازحاً إلى إمكانية بيعها، أحدث كله أثراً في زيادة الثقة بالمقاومة من ناحية، وعبّر من ناحية أخرى عن زيادة ثقتها بقدراتها، كما أنه، وأهم من ذلك كله، ثبّت معادلة جديدة تعلنها المقاومة اليوم، وهي أنّ التفوق الإسرائيلي في مجال المسيّرات لم يعد مفيداً بالنسبة إلى الإسرائيلي، من دون الإعلان عن حجم قدرة المقاومة في هذا المجال.

وهنا، يمكن تثمين قدرة المقاومة على التحكم في المعلومة والاستفادة منها، بحيث تأخذ النتيجة المفيدة منها من دون الإفصاح عن مضامينها كافةً. إنها القدرة على تجزئة المعلومات المفيدة للردع والاستفادة من كل جزءٍ من هذه الأجزاء، فالإعلان عن قدرة المقاومة على إنتاج المسيّرات في لبنان منذ سنوات، لم يتضمن إشارةً إلى قيمة هذه القدرة في تحقيق توازن المسيرات مع العدو، الأمر الذي يترك الأخير غير قادر على معرفة هذه المعلومة، فيما يتعرض لآثارها بصورةٍ ملموسة، وعلى مقاس مصلحة المقاومة وحدها.

وقد أتى تحليق 'حسّان' كترجمةٍ عملية لهذه الدقّة التي أتقن السيد نصرالله التعبير عنها في خطابه. وإلى جانب ذلك، أتى إعلانه عن تطوير القدرات الصاروخية لدى المقاومة وتحديث قدراتها من ناحية الدقة ليكمل المشهد، بحيث يتحقق 'توازن المسيرات' في القدرة على الاستخدام المفيد لها من ناحية، وتصعيد قدرات سلاح الصواريخ الدقيقة الأكثر إثارة لرعب الإسرائيليين من ناحية ثانية.

وفي الطلعات الحربية الوهمية فوق بيروت بعيد الخرق الكبير الذي أحدثته 'حسّان'، يقول الكيان إن تعطّل قدرات سلاح المسيرات وظهور توازن القدرة على الاستفادة منها، لا يلغي تفوقه في سلاح الجو، إذ لم تكشف المقاومة بعد عن قدراتها في مواجهة هذا السلاح حتى الآن. وفي مقابل ذلك، يتوقع أن تستمرّ المقاومة في استراتيجية تقنين المعلومات وتجزئتها والاستفادة من أجزائها كافة في ما يخص قدراتها الدفاعية في مواجهة سلاح الجو الإسرائيلي.

توسّع السيد نصرالله في خطابه الأخير في شرح المأزق الاستراتيجي الإسرائيلي وتبيان أبعاده، فتحدث عن كيانٍ مأزومٍ يسير باتجاه الانحدار. وقد جاء إعلان القدرة على تحويل آلاف الصواريخ إلى صواريخ دقيقة صاعقاً للعدو، الذي يعبر دائماً عن خوفه من السلاح الصاروخي للمقاومة، ويركز مع حلفائه على محاربة تطوير هذا السلاح عند الإيرانيين، وها هو اليوم يتلقى خبر تحقق القدرة على تطوير دقته في لبنان على حدود فلسطين مباشرةً.

وراجع السيد في خطابه مسيرة المقاومة بالتوازي مع تكرر الجرائم الإسرائيلية خلال مرحلة احتلاله جنوب لبنان، إذ أكد أن المقاومة هي التي حفظت سيادة لبنان بالتعاون مع السياديين الحقيقيين، بعد أن كانت مهددة من قبل الاحتلال، وأنها سارت على هدى القاعدة التي أرساها الشيخ الشهيد راغب حرب في شعاره الشهير 'الموقف سلاح والمصافحة اعتراف'.

مواقف السيد نصرالله في خطابه الشامل توسعت لتطال امتحان الخيارات التي تتخذ اليوم في المنطقة، إذ فنّد بطلان اعتبار بعض الدول أن المستقبل سيكون لمصلحة 'إسرائيل'، وبناء خياراتهم التطبيعية معها على أساس هذا التوقع، وفسّر في المقابل كيف أن كيان الاحتلال هو كيانٌ مؤقت يتراجع الآن، ويذهب باتجاه الزوال المحتوم، وأن المستقبل سيكون لحركات المقاومة في المنطقة.

ويأتي توقيت حالة الانحدار التي يعيشها الاحتلال على قوسٍ زمنيٍ نزولي وضعه السيد، معتبراً أنه بدأ في العام 1985، عندما فرضت المقاومة عليه الانسحاب إلى الحزام الأمني، وهي محطة قليلاً ما تُذكر عند استرجاع هزائم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، معتبراً أن هذا القوس سقط 'مع إنجازات المقاومة وانتصاراتها في فلسطين ولبنان'.

لكن حالة الانحدار الإسرائيلية هذه لا تقتصر على التحليل والتقويم الذي تقدمه قيادة المقاومة، بل إن الخطاب تضمن إشارة إلى حقائق إسرائيلية تم التعبير عنها على لسان 'كبار قادة العدو ومحلليه'، الذين ما فتئوا يؤكدون أنّ 'إسرائيل' في حالة انحدار، وأن زوالها هو مسألة وقت'، بمؤسساتها ومجتمعها و'جيشها'.

وفي تفصيل الأزمة الوجودية التي يعيشها الكيان، أكد نصر الله أن الإسرائيليين أنفسهم أكدوا أنّ كيانهم أمام 3 تهديدات، من بينها الأزمة المجتمعية وتفكك نسيجها، واضعاً الدعم المالي الذي تقدمه بعض دول التطبيع لـ'إسرائيل' في إطار محاولة ضخ الحياة فيها، ويخدم مشروعها في المنطقة، وهو المشروع الذي استفاض السيد في الحديث عن عقم مستقبله وقتامة خياراته.

وحيث إن الكيان الإسرائيلي قام في أساسه على 'الجيش' والتسلح والجرائم الناتجة من ذلك، فإن إشارة السيد نصرالله إلى تراجع رغبة الإسرائيليين في القتال وتدهور ثقتهم بـ'جيشهم'، جاءت لتصيب نقطة حساسة في مجتمع العدو الذي تهدده رغبة المجندين في مغادرة 'الجيش'، ورغبة المستوطنين في البقاء في البلاد المحتلة. ولم يغفل السيد تشجيع هؤلاء على مغادرة فلسطين، متكفلاً بأريحية المقاومين الواثقين بتحمل كلفة تذاكر سفرهم.

في المقابل، إن رسالة نصر الله إلى الشعب الفلسطيني مختلفة تماماً. هي دعوةٌ إلى الصمود والثقة بأفق التحرير الذي تمثله المقاومة. إنه الأفق الأكثر تفاؤلاً واحتمالاً للتحقق، وفق معطيات حقيقية تتصاعد باطّراد. إن المقاومة، وفق رؤية نصر الله، هي السبيل الأوحد للتحرير، وهي التي رسمت معادلة العدو الواهن وردعته، على الرغم من كل الحملات التي شُنت وتشن ضدها.

إن الثقة التي وضعها السيد نصرالله في خطابه بجماهير المقاومة في فلسطين ولبنان، وفي غير مكان، مبنية على وقائع حدثت، ومعطيات يتم الكشف عنها اليوم، وتتحقق في اليوم التالي (مثل تحليق المسيرة 'حسان' فوق الأراضي المحتلة وتنفيذ مهماتها وفشل العدو في إسقاطها)، ويمكن امتحانها على أرض الواقع، فيما تفشل المقاربات المقابلة لها، مثل مقاربة الحقوق العربية من خلال الذهاب إلى أحضان العدو وتطبيع العلاقات معه.

وقد تحدى السيد نصرالله العدو بأن يبحث قدر ما يشاء عن الصواريخ الدقيقة، مشيراً إلى أنه لن يجدها، ولن يتمكن من وقف تدفق الأسلحة إلى حركات المقاومة عبر سوريا. إنها ثقة تامة بالقدرة على منع العدو من تحقيق أهدافه. واختصار هذه الثقة ترجمه بعبارة 'نحن ننتظركم'.

وفي إشارته إلى احتمال حدوث عملية 'أنصارية 2' رسالة واضحة للعدو تحذّره من الإقدام على أية عمليات إنزال أو تنفيذ أية عمليات توغل على الأراضي اللبنانية، فعملية 'أنصارية' الشهيرة هي تلك التي حاولت خلالها قوات النخبة في 'جيش' الاحتلال تنفيذ عملية إنزال، وتصدت لها المقاومة في قرية أنصارية الجنوبية إبان سنوات الاحتلال الأخيرة في جنوب لبنان، وانتهت بانتصارها الكبير، وبتناثر أشلاء ضباط وجنود قوات النخبة عند العدو، مبادلةً هذه الأشلاء في ما بعد بأسرى مقاومين.

وفي الإشارات الأكثر أهمية أيضاً في الخطاب التاريخي للسيد نصرالله تأكيد أنّ المقاومة التي تمتلك القدرة على تطوير صناعاتها العسكرية، قررت تفعيل الدفاع الجوي الموجود منذ سنوات في مواجهة خطر المسيرات الإسرائيلية، وأنها أجرت في الصيف الماضي أضخم موسم تدريبي لها. إنها كلمات كافية، وفق التجربة، لردع العدو ومواصلة مراكمة القدرات لتقوية موقف المقاومة ومشروعها في المنطقة.