لويز دولينو.. تحية إلى النور الكامن في التجريد الهندسي

المتأمل في أعمال الفنان البرازيلي لويز جيرالدو دولينو المعروضة في القاعة الذهبية ضمن المتحف الوطني في دمشق سيتلمَّس امتداداً لما بدأه موندريان، إلى جانب تأثر بالفنان الأميركي مارك روثكو.

ما زالت المعارض الفنية التي تنتمي إلى مدرسة التجريد الهندسي تثير الكثير من الجدل حولها منذ نشوئها في الثلث الأول من القرن العشرين، لا سيما أنها نشأت بعد الحرب العالمية الأولى كرد فعل على الذاتية المفرطة للفنانين التشكيليين ومحاولة للنأي بأنفسهم عن العاطفية البحتة، وتحويل تلك العاطفة تجاه المتلقي، بحيث تكون اللوحات حاملة أسئلة أكثر منها إجابات عن حالة الفنان النفسية.

ويرى فنانو هذه المدرسة وعلى رأسهم بيت موندريان أن التجريد هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات. لكن ذلك لا يتحقق ما لم يملك الرسّام قدراً عالياً من الوعي والحدس اللذين يمكّنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم.

المتأمل في أعمال الفنان البرازيلي لويز جيرالدو دولينو المعروضة في القاعة الذهبية ضمن المتحف الوطني في دمشق سيتلمَّس امتداداً لما بدأه موندريان، إلى جانب تأثر بالفنان الأميركي مارك روثكو، إذ إنه حافظ على استقلال القيم العاطفية في اشتغالاته فضلاً عن التزامه بإلغاء البعد الثالث، واتكائه على الخطوط المستقيمة والأشكال الهندسية وخاصة المستطيل والمثلث للتعبير الفني، واستخدام الألوان وتدرجاتها لتحقيق الإبهار المأمول.

وبين أعماله الكبيرة والصغيرة ثمَّة توازنات دقيقة يحققها الشكل الهندسي وتموضعه على مساحة اللوحة، فضلاً عن العلاقة بين الأشكال مع بعضها، وصلتها بخيارات دولينو اللونية، إذ سيجد المتلقي صعوبة في الوصول إلى المغزى الدقيق من وراء تلك التراكبات والتجاورات، لكن ببعض التأمل يمكن أن يصل إلى حالة من الاستغراق في تلك الأعمال وعلاقات أشكالها ببعضها قد تقارب في بعض الأحيان ما شعر به الفنان وهو على طاولة مرسمه.

وقد يتحقق ذلك في محاولة إيجاد العلاقة بين عنوان اللوحات وآليات تنفيذها، إذ إن تجريدات دولينو الهندسية مستوحاة بمجملها من الطبيعة البرازيلية ومناظرها، وهو ما أتاح له خصوصية إضافية وبصمة مميزة، فمثلاً لوحة 'خليج بوتافوغو ENSEADA DE BOTAFOGO' تحيلك بتدرجات ألوانها النبيذية في القاعدة مع بعض البرتقالي، وفوقه أكثر من لون للأزرق، وفي الزاوية العليا اليسرى برتقالي فاتح إلى ما يشبه الغروب في ذاك الخليج البرازيلي المعروف.

والمستطيلات الثلاثة ذات الحواف المنكسرة والمتراكبة فوق بعضها ضمن اللوحة المسماة 'شمس إيبانيما' (SOL DE IPANEMA) ستضعك في مواجهة مع ذاك الشاطئ بممراته ومساراته المخصصة للسياح الراغبين بمشاهدة غروب الشمس، خاصةً أن دولينو استثار حفيظة الألوان الذهبية لتلك المستطيلات على خلفية للون نحاسي، وبضربات فرشاة غاية في الرهافة.

أما عمله المعنون بـ'نهر كوبانغو' (CUBANCO) فإلى جانب التناظر والتجاور بين الأزرق الغامق والنهدي في الخلفية، ثمة اشتغالات على كسر ذاك التناظر على سطح اللوحة وكأنه انعكاس لأشعة الشمس وتبايناتها على ماء النهر وفي أوقات مختلفة من النهار، وبالمثل يمكن قراءة لوحة 'بحر كوباكابانا' (MAR DE COPACABANA) حيث الأزرق الفاتح والغامق، وصولاً إلى الكحلي وبينهما مساحات للأخضر والبرتقالي.

وفي أعمال أخرى لا علاقة مباشرة لها بالطبيعة البرازيلية، يعطينا دولينو 'طريقة لقياس المسافة' (CAMINHO PARA DISTANCIA) وهو اسم إحدى لوحات المعرض، إذ تحيط بمعيَّن أصفر 4 مستطيلات بتدرجات مختلفة للأحمر والبرتقالي، بتتالٍ مدروس، وكأنه يقيس المسافة بالعلاقة مع الشمس بشروقها وغيابها، وذلك على قاعدة من مستطيلين بنّيين، وبخلفية بيضاء تحيط الموجودات كلها.

والأمر ذاته ينطبق على عمله 'نور' (NUR) الذي حمل عنوان المعرض، إذ تنقسم اللوحة إلى 3 مستطيلات شاقولية متساوية، على كل منها تنطوي مستطيلات أصغر ويخرج منها زاويتها المثلثية الشكل بأبعاد مختلفة أشبه بظلال على خلفيات حمراء وبيضاء وخضراء، لنستشف منها علاقات الظل بالنور بطريقة تجريدية مغايرة للمألوف.

وهو ما نراه في لوحة 'كنيسة صغيرة' (CAPELA) بأعماقها المتباينة، فكأنها على 3 مستويات من العمق، وفي كل مستوى نلحظ القناطر لكنها هنا منكسرة من دون أي انحناءة تخالف المنظور التجريدي الهندسي، ويخفف من ذلك متواليات الألوان بين الأسود والأخضر، أو الأزرق والبرتقالي.

وللأعماق دور كبير في اشتغالات دولينو التي نراها أيضاً في لوحة 'بحار جريء' (NAVEGANTE ATREVIDO)، فعلى الخلفية الخضراء الكبيرة ثمة ما يشبه وجه رجل مستلقٍ على ظهره، وينغرز في أعلاه مثلثان، الصغير أخضر يمثل العينين، والكبير كحلي يقارب الفن، بحيث يبدو المثلثان كأنهما أعماق متباينة في لجة البحر الكبير.

بينما تحيلنا لوحة 'شاطئ مهجور' (PARAIA DESERTA) إلى تباينات واضحة يحققها استخدام اللون الأبيض بمجاورة الأزرق والأخضر، مع ترتيب المستطيلات بطريقة توحي بالمسافة، ومثلها عمل 'قرصان' (CORSARIO) التي تبلغ أقصى درجات التجريد، خاصةً مع حيوية الأحمر وقتامة الأسود، والزوايا المنكسرة للأبيض والأصفر.

لتبقى لوحة 'زحل-تحية إلى جورجي بيريرا' (SATURNO-HOMENAGEM- JORGE PEREIRA) ذات خصوصية عالية في اعتنائها بأدق التفاصيل واهتمامها بالمسافات بين الأشكال الهندسية، بخلفيتها الزرقاء السماوية والتناغم البصري بين الأحمر والبرتقالي والأزرق والتي جاءت في تكوينها أشبه بوردة مكتملة البهاء، ومثلها عمل 'حفل غير محتشمة' (FESTA IMODESTA).

لتكون مجمل الأعمال بمنزلة تحية للنور الكامن في هذه الأعمال التجريدية، والذي يُؤكد التجربة الفردية لمشاهديها، ونظرتهم إلى الاشتغالات الهندسية والتوليفات اللونية، بعيداً عن التمثيل المباشر للأشياء، وإنما الغوص في حقيقتها مهما بلغت من الغموض.

وهو ما أشار إليه الناقد فابيو ماغاليايس على بروشور المعرض في قراءته لتجربة هذا الفنان البرازيلي: 'طور دولينو ذائقة بصرية مستقيمة في فنه، حيث تغيب المنحنيات في أعماله، لتتولى الخطوط المستقيمة والمستويات كما الزوايا مسؤولية تحديد ديناميكيات المساحة، والحركيات المستمرة والمتقطعة التي تؤسس التناغم المكاني وتوفر دعماً إيقاعياً للتعبير اللوني. وهذا بدوره يحدد مناطق الضوء والظل من خلال التدريج أو التباين اللوني'.

وأضاف: 'كوّن دولينو نمطاً هندسياً فائق الحرية، وأكثر حساسية وعاطفية، يشكِّل بحدّ ذاته الجانب الأكثر عقلانية لهذه المجموعة الفنية، في حين يشكل التعبير اللوني الجانب الأكثر شاعرية في فنّه'.