اخبار الجزائر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٣ تموز ٢٠٢٥
على رغم الطابع الفردي والعشوائي فإنها تشكل اقتصاداً موازياً يقدر حجمه بملايين الدولارات سنوياً وتعتمد على استيراد غير نظامي للسلع
في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتقلبة في الجزائر، تحول نشاط الاستيراد المصغر أو ما يعرف محلياً بتجارة 'الكابة' أو 'الشنطة'، من مجرد وسيلة بسيطة لتوفير بعض المستلزمات الشخصية إلى نشاط تجاري مهيكل وغير رسمي، يعتمد عليه آلاف الجزائريين كمصدر رزق يومي، حتى بات اليوم جزءاً من مشهد اقتصادي موازٍ يحمل في طياته كثيراً من التعقيدات، في ظل فرضية مفادها أن هذه التجارة، على رغم عشوائيتها، تمثل ملاذاً اجتماعياً واقتصادياً لشرائح واسعة من المجتمع، لكنها قد تتحول إلى عبء اقتصادي إذا لم تؤطر بقوانين واضحة.
ومع تزايد انتشار هذا النوع من التجارة تُطرح إشكاليات عدة أبرزها، إلى أي مدى تسهم تجارة 'الكابة' في دعم الاقتصاد الوطني، وهل تمثل تهديداً للمؤسسات الاقتصادية الرسمية؟ وما حدودها القانونية والتنظيمية؟ وهل تعكس فعلاً حلاً لمعضلة البطالة أم إنها تكرس اقتصاد الظل؟
في اجتماع مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ الـ19 من مايو (أيار) 2025، وجه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بتسوية وضعية الشباب الناشطين في مجال الاستيراد المصغر الذاتي، من خلال إدماجهم ضمن النشاط النظامي للتجارة الخارجية.
وجاء في الصحيفة الرسمية أن نشاط الاستيراد المصغر هو العمليات المنجزة بصفة فردية من قبل الأشخاص الطبيعيين خلال تنقلاتهم إلى الخارج بغرض الاستيراد، لأجل بيع كميات محدودة من السلع لا تتجاوز قيمتها مليون و800 ألف دينار جزائري (نحو 13400 دولار أميركي) لكل تنقل خارج الوطن، في حدود تنقلين اثنين في الشهر.
ويمارس نشاط المستورد المصغر حصرياً وشخصياً من قبل الأشخاص الطبيعيين الحائزين صفة المقاول الذاتي، ويستفيد المستورد المصغر من امتياز المحاسبة المبسطة للنشاط من قبل مصالح الضرائب المتخصصة إقليمياً.
ويعفى المستورد المصغر من إلزام القيد في السجل التجاري ومن رخص الاستيراد المسبقة، ويستفيد أيضاً من حق جمركي بنسبة خمسة في المئة، ونظام ضريبي خاص.
ومن شروط ممارسة نشاط الاستيراد المصغر عدم ممارسة أي نشاط آخر مربح، سواء بصفة أجير أو تاجر أو مهنة حرة، ويشترط أيضاً الانتساب إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لغير الإجراء، وفتح حساب بنكي بالعملة الصعبة لدى بنك الجزائر الخارجي.
وأكد العدد الأخير من الصحيفة الرسمية أنه يجب على المستورد المصغر حيازة بطاقة المقاول الذاتي التي تتضمن نشاط 'استيراد مصغر'، والحصول على رخصة عامة لممارسة النشاط تسلمها مصالح وزارة التجارة الخارجية.
لكن مرسوماً تنفيذياً آخر يتعلق بنوعية السلع المعنية بالاستيراد أقر بمنع استيراد المواد الصيدلانية، والسلع التي تتطلب رخصاً خاصة والمواد المحظورة قانوناً، إضافة إلى تلك المصنفة ضمن قائمة 'المواد الحساسة' المتعلقة بالأمن والنظام العام أو تلك التي يخشى تأثيرها في الصحة العمومية أو الاقتصاد الوطني.
ويلزم المرسوم المقاول الذاتي بتمويل نشاطه من أمواله الخاصة دون الاستفادة من العملة الصعبة التي توفرها الدولة، مما يعكس توجه الحكومة نحو الحفاظ على احتياط الصرف ومنع تسرب الدعم غير المباشر إلى نشاط غير موجه له أصلاً.
وتهدف الجزائر من خلال هذه القوانين إلى 'عقلنة' النشاطات التجارية الموازية التي ظلت لعقود تعمل في الظل من دون أي تأطير قانوني، متسببة في خسائر جبائية ضخمة واختلالات هيكلية في السوق المحلية، وأيضاً استجابة للطلب الشعبي المتزايد لإدماج النشاطات الفردية في الاقتصاد الرسمي، وبخاصة لدى فئة الشباب والعمال في الخارج الراغبين في ممارسة نشاط تجاري بسيط من دون أن يخضعوا لتعقيدات السجل التجاري والممارسات البيروقراطية.
وفي الواقع، تعود بدايات تجارة 'الشنطة' إلى أعوام الأزمة الاقتصادية نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، إذ بدأ الجزائريون يجلبون السلع الاستهلاكية من الخارج -وبخاصة من أوروبا وتركيا- لبيعها بأسعار أقل من تلك المتوافرة في السوق المحلية، إذ ساعدت الهوة بين القدرة الشرائية والأسعار إلى جانب نقص بعض المواد في السوق على تكريس هذه الظاهرة.
وخلال تلك الفترة التي سبقت مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي، كانت قائمة السلع المتداولة محدودة جداً، واقتصرت أساساً على بعض أنواع الملابس من مدينة مارسيليا الفرنسية إلى جانب فاكهة مثل البرتقال والتفاح، إضافة إلى العطور الفاخرة التي كانت تخصص لتلبية رغبات كبار المسؤولين داخل البلاد.
وشهدت تجارة 'الكابة' توسعاً كبيراً وارتفاعاً في عدد المشتغلين بها بعد تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 1988، بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
وتزامن هذا الوضع مع نقص حاد في الأسواق الوطنية، إذ اختفى عدد من المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأساس، مما دفع كثراً إلى اللجوء إلى هذا النوع من التجارة لسد الحاجات المتزايدة.
وأصبح اليوم هذا النشاط يشمل فئات متعددة من العاطلين من العمل إلى جانب الموظفين والتجار الموسميين، وكلهم يبحثون عن مورد رزق بديل في ظل محدودية فرص التشغيل.
وعلى رغم الطابع الفردي والعشوائي لتجارة 'الشنطة' فإنها تشكل اقتصاداً موازياً يقدر حجمه بملايين الدولارات كل عام، فهي تعتمد على استيراد غير نظامي للسلع من دون رسوم جمركية أو فواتير، مما يضر بالخزانة العمومية ويضعف المنافسة بين التجار.
ضمن جولة صحافية قادتنا إلى بعض المساحات التجارية بالجزائر العاصمة ومحافظة بومرداس التقينا عدداً من الشباب الذين يمارسون نشاط الاستيراد المصغر أو ينوون دخوله في ظل القانون الجديد.
ويقول عبدالقادر من منطقة الرويبة بالعاصمة، وهو يزاول نشاط الاستيراد المصغر منذ أكثر من خمسة أعوام 'كنت أتنقل إلى تركيا ودبي مرتين في الشهر، وأدخل كمية صغيرة من الإلكترونيات وملابس الأطفال. في كل مرة كنت أواجه خطر الحجز أو الغرامات، وأشعر بأني خارج عن القانون على رغم أنني أعيل عائلتي بعرق جبيني'.
ويضيف 'الآن بعد هذا القرار، سجلت كمقاول ذاتي ولدي بطاقة قانونية، وأعمل وأنا مرتاح قانونياً ونفسياً'.
تقول نوال التي بدأت أول تجربة لها في الاستيراد المصغر خلال مايو (أيار) الماضي 'فرحت كثيراً لما سمعت عن المرسوم الجديد، وتقدمت بطلب بطاقة مقاول ذاتي، لكن واجهتني صعوبات كبيرة في فهم خطوات التصريح الإلكتروني، وبخاصة مع قلة الشرح والتوجيه'.
وأوضحت 'أعتقد أن وزارة التجارة مطالبة بإطلاق حملات توعوية مبسطة، وربما فيديوهات شرح خاصة بنا نحن المبتدئين'.
وأبدى كريم، الذي يعمل في استيراد قطع الغيار الدقيقة للآلات الصناعية تخوفه من احتمال تجاوز السقف المالي المحدد، وقال 'نشتري قطعاً صغيرة لكنها غالية الثمن، وقد نتجاوز السقف المحدد بـ180 مليون سنتيم من دون أن ندخل كميات كبيرة. نرجو من السلطات أن تأخذ طبيعة المواد في الحسبان، خصوصاً أننا نسهم في تشغيل مصانع متوقفة'.
يقول المتخصص المالي والمصرفي سليمان ناصر إن الحكومة تحاول بقرارها تقنين الاستيراد المصغر ودمج جزء من الاقتصاد الموازي داخل الاقتصاد الرسمي. وأوضح لـ'اندبندنت عربية' أن الاقتصاد الموازي يشكل نحو 40 في المئة من الاقتصاد الكلي الجزائري، ويتسبب في خسائر مالية كبيرة للخزانة العمومية بسبب التهرب الضريبي.
وأضاف أن الجزائر تحاول أن ترفع ناتجها الداخلي الخام وتستهدف تحقيق ناتج يقدر بـ400 مليار دولار خلال الأعوام القليلة القادمة، ولذلك تسعى الحكومة إلى دمج أكبر عدد ممكن من النشاطات الاقتصادية الموازية ضمن عجلة الاقتصاد الرسمي.
وأفاد بأن تقنين تجارة 'الشنطة' يدخل في هذا المجال لأنه يستهدف صغار المستوردين ودمجهم ضمن صيغة نشاط المقاول الذاتي، لتحصيل الضرائب والرسوم الجمركية من هذا النشاط التجاري.
غير أن سليمان ناصر لا ينكر أن 'هذا القرار يتضمن تشجيعاً للسوق الموازية للعملة على غرار بعض القرارات الأخرى، مثل السماح باستيراد السيارات أقل من ثلاثة أعوام، لأن الحكومة لا تمول هذه الأنشطة بالعملة الصعبة، إنما تطلب من المواطنين شراء العملة الصعبة من السوق الموازية وإيداعها في حساباتهم البنكية ثم استعمالها في الاستيراد'.
ويقول المتحدث إن 'الحكومة تغض الطرف وتترك تجار الشنطة يقتنون العملة من السوق الموازية، لأنها ترى في القرار حلاً بديلاً في غياب سوق رسمية للصرف، إذ إن هذه التقييدات تجعل السوق الموازية للعملة المتنفس الوحيد للمواطن في انتظار فتح مكاتب الصرف والحصول على العملة بسعر رسمي'.
يرى المتخصص الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي الجزائري مراد كواشي أن الحكومة الجزائرية تستهدف من خلال تقنين الاستيراد المصغر تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية، لمصلحة فئة الشباب المقاول وإدماجهم في عجلة الاقتصاد الرسمي.
ويقول كواشي في حديث إلى 'اندبندنت عربية' إن تقنين مهنة الاستيراد المصغر أو تجارة 'الكابة' هدفه تقليل حجم السوق الموازية، من خلال إعطاء صيغة رسمية للتجار الذين يشتغلون في هذه المهنة وإدماجهم في السوق الرسمية لتأمين حقوقهم، كما هو معمول به في حالة المقاول الذاتي.
وأضاف أن الهدف الاجتماعي يتمثل في تقليص البطالة لدى الشباب وتوفير مناصب شغل جديدة وتزويد الخزانة العمومية بإيرادات مالية إضافية من خلال الضرائب التي تفرض على ممارسي هذا النشاط التجاري المصغر.
وأوضح أن هذا القرار لا يخلو من سلبيات منها الغموض حول التمويل وكيفية حصول هؤلاء التجار على العملة الصعبة، مما سيشكل دفعاً آخر للسوق الموازية للعملة، إذ ستعرف أسعار العملات الأجنبية ارتفاعاً مقارنة بالدينار وهي أكبر ثغرة في هذا القرار بسبب ارتفاع الطلب على العملة الصعبة.