الجزائر "ترابها زعفران"... ولكن

من الهضاب العليا إلى سفوح الأوراس تتوسع تجربة زراعته حاملة معها رهانات كبرى وتحديات ثقيلة

في خريطة الفلاحة الجزائرية الناشئة، يطل الزعفران كمحصول استراتيجي يختبر قدرة البلاد على الجمع بين القيمة الاقتصادية العالية والاستدامة البيئية والاجتماعية. فمن الهضاب العليا إلى سفوح الأوراس تتوسع هذه التجربة حاملة معها رهانات كبرى تتجاوز مجرد تنويع محاصيل الفلاحين الصغار، لتلامس أهدافاً وطنية ترتبط بتقليص التبعية للمواد الطاقوية، وتمكين الشباب والنساء في الأرياف، وخلق سلاسل تصديرية تنافسية. غير أن طريق 'ذهب الأرياف الأحمر' محفوف بتحديات ثقيلة، مثل شح المياه وكلفة المشاتل وتعقيدات ما بعد الجني وضعف التنظيم ومنافسة أسواق راسخة.

وتعود التجربة الجزائرية في زراعة الزعفران إلى عام 2009، حيث انطلقت في محافظة خنشلة بعد خسارة بساتين التفاح بهدف تنويع المحاصيل وتحسين مداخيل الفلاحين. وتم في تلك الفترة تهيئة 10 مواقع نموذجية لزراعة الزعفران في هذه المنطقة.

وكانت أولى الخطوات الفعلية لزراعة الزعفران في الجزائر خلال عام 2016، عندما نظمت جمعية لحزامات الفلاحية يوماً دراسياً حول الزعفران في منطقة الأوراس شرق الجزائر. وفي منتصف أغسطس (آب) من العام نفسه، بدأت الزراعة في قرية أولاد سعدون (إينوغيسن) بمحافظة باتنة، ثم توسعت إلى محافظات سطيف وأم البواقي وغيرها من المناطق.

وأمام النجاح الذي حققته التجربة، توسعت سريعاً رقعة الطلب المحلي لتشمل 29 محافظة عام 2018. وعام 2019 أطلق مشروع ثان لتحسين المردودية وتخفيف مشقة العمل عبر استخدام حاويات معدنية مرتفعة وآلات مخصصة، وهو ما سمح بزيادة الإنتاجية بنسبة 300 في المئة، لتصل إلى 20 كلغ للهكتار الواحد، وسرعان ما نما بدعم شبابي واسع وتم إنشاء جمعية وطنية للمزارعين، فضلاً عن تنظيم أول عيد وطني للزعفران.

أصبح الزعفران الجزائري يستجيب للمعايير الدولية (ISO 3236)، وهو ضمان للجودة يفتح آفاقاً واسعة للتصدير، في وقت يشهد الطلب العالمي نمواً سنوياً يراوح بين سبعة وثمانية في المئة منذ 2021، كما تسجل المنصة التابعة لمركز تطوير التكنولوجيات المتقدمة (CDTA) أكثر من 200 منتج عبر مختلف ولايات البلاد، مما يؤكد ترسخ هذه الشعبة في المشهد الفلاحي المحلي.

وسرعان ما فتح باب الشراكات الدولية لزراعة الزعفران، فتم استحداث مشروع 'زعفران فود' الدولي، الذي يضم ست دول هي ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وفرنسا والجزائر، بهدف تطوير زراعة الزعفران باستخدام أحدث الأساليب العلمية.

وبحسب تصريحات صحافية للباحثة بمركز البحث العلمي والتقني حول المناطق القاحلة لمحافظة بسكرة وريدة بن ومان، فإن مشروع 'زعفران فود' الدولي وضع الجزائر في مصاف الدول الرائدة في زراعة الزعفران بفضل نتائج مبهرة تفوقت على المعايير العالمية.

وأضافت الباحثة أن المشروع نفذ في 34 موقعاً داخل الجزائر، وأظهرت النتائج أن 19 موقعاً حققت إنتاجية وجودة تفوق المعايير العالمية، بل وتجاوزت إيران في نسبة الكروسين المسؤولة عن اللون والرائحة (20-22 في المئة مقابل 19 في المئة). وشملت التجارب محافظات عدة من الشمال إلى الجنوب، ونجحت في جميعها مع توسع إقبال الفلاحين من كثير من المحافظات على هذا النوع من الزراعة، وغطى المشروع مساحة 30-35 هكتاراً.

وأفادت بأن التحاليل على الزعفران البيولوجي، أكدت أنه يحوي كثيراً من الفيتامينات الضرورية للجسم، ومجموعة من الزيوت الأساسية ذات الخصائص العلاجية المفيدة للإنسان.

خلال الأعوام التي تلت، توسعت الزراعة لتشمل محافظات أخرى، لا سيما المناطق الجبلية، إذ أكد المتخصصون أن الزعفران ينمو بصورة أفضل في المرتفعات بين 600 و1200 متر، مشيرين إلى أن الظروف المناخية والتربة ملائمة، وأن الزراعة لا تتطلب موارد مائية ضخمة.

وعام 2020، شهدت شعبة الزعفران 'انطلاقة قوية' خلال ثلاثة مواسم، إذ سجلت إنتاجاً بلغ 20 كيلوغراماً تقريباً خلال الموسم 2018–2019 في محافظة خنشلة، مما يظهر مدى التوسع والإقبال المتزايد.

وفي يونيو (حزيران) 2024، أفاد تقرير بأن 11 محافظة جزائرية تنتج زعفراناً من الصنف الأول بالمواصفات نفسها للزعفران الإيراني، مما يشير إلى تقدم نوعي في الإنتاج والجودة، بينما أحصت وزارة الفلاحة الجزائرية أكثر من 200 منتج للزعفران تستغل أراضي تقدر مساحتها بنحو 58 هكتاراً.

ويشير المتخصص الجزائري في المجال الزراعي بالمعهد الجزائري للأبحاث الزراعية بوزيد محمد، إلى أن سعر الكيلوغرام الواحد من الزعفران يبلغ في السوق الجزائرية 4 ملايين دينار جزائري (30800 دولار)، إذ إن أكثر من 150 زهرة تنتج غراماً فقط من الزعفران.

وأبرز المتحدث في تصريحات صحافية، أن الإشكال الذي يواجه المنتجين يتمثل في عملية قطف الأزهار، التي تتطلب أشخاصاً على دراية بطريقة حصاد المحصول التي لا تتجاوز فترتها 20 يوماً، وتتم في الصباح الباكر، علماً أن موسم الزرع يكون في سبتمبر (أيلول)، أما الجني فيكون في نوفمبر (تشرين الثاني).

ودفعت تجارب زراعة الزعفران السلطات في الجزائر إلى إطلاق مبادرة وطنية طموحة في الأول من سبتمبر الماضي، لتطوير زراعة وإنتاج الزعفران بالتنسيق بين وزارة الفلاحة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي ممثلة في مركز البحث العلمي والتقني حول المناطق القاحلة.

تتمثل المبادرة في اتفاق تعاون بين القطاعين الوزاريين يهدف إلى 'تنظيم وتطوير زراعة الزعفران وتعميمها في الجزائر'، ويشمل مؤسسات بحثية وعلمية من كلا القطاعين، ويتضمن رؤية شاملة ومتكاملة لتطوير زراعة الزعفران تبدأ من البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وتمتد إلى التكوين (الرسكلة) والتأهيل لتتوج بالتسويق.

كما تهدف المبادرة إلى تحقيق أهداف استراتيجية عدة، منها تنظيم نشاطات مشتركة لزراعة مشاتل الزعفران الجزائري، وضمان برمجة دورات تكوين يؤطرها متخصصون لفائدة المتخصصين والفلاحين والمتعاملين الاقتصاديين وحاملي المشاريع، ما من شأنه تعزيز الفعل المقاولاتي في الوسط الفلاحي.

وسيتم بموجب الاتفاق إعداد مشروع تأسيس المدرسة الدكتورالية المتخصصة في المجال، ويتضمن المخطط أيضاً اتخاذ تدابير لتسهيل إجراءات التحليل الفيزيائي- الكيماوي، والهندسة الوراثية والجينية لمنتج ومشاتل الزعفران، من أجل حصول المؤسسات المعنية على الاعتماد والمطابقة وفق المعايير الدولية.

وتسعى هذه الاستراتيجية إلى تعزيز البحث العلمي، وتطوير بذور جديدة، وإنشاء صناعات تحويلية للزعفران، والتسويق المحلي والإقليمي والدولي، بهدف تثمين هذا المحصول الوطني ذي القيمة الاقتصادية العالية.

ودخل الزعفران الجزائري الأسواق الدولية تدريجاً، لا سيما أوروبا ودول الخليج، على رغم أنه لم يكتسب بعد حضوراً واسعاً محلياً بسبب سعره المرتفع، فيما شرع مزارعون في تحويل الزعفران إلى منتجات مثل الصابون والسوائل العلاجية.

وحسب قاعدة بيانات التجارة العالمية، عام 2023 استوردت الجزائر 4 آلاف كيلوغرام من الزعفران من الهند، بينما كانت الكميات الواردة من الاتحاد الأوروبي وفرنسا ضئيلة جداً.

وعلى رغم النجاحات التي حققتها زراعة الزعفران في الجزائر، بخاصة في الجنوب، فإنها لا تزال تواجه عقبات أبرزها ارتفاع كلفة اليد العاملة لصعوبة جني وتجفيف الخيوط، وضعف الوعي بأهمية هذا المحصول مقارنة بالزراعات التقليدية، إذ يتطلب الزعفران عناية خاصة ومناخاً يجمع بين الجفاف والبرودة، وهو ما توفره مناطق الجنوب شتاء، مما يضمن إنتاج أزهار غنية بالخيوط الحمراء العالية القيمة.

تقول الإعلامية الجزائرية رونق خنفر إن زراعة الزعفران في الجزائر تجربة واعدة لكنها محفوفة بكثير من الصعوبات، فهذه الزراعة ليست بالسهولة التي يتصورها كثر، إذ تمر بمراحل دقيقة، لعل أصعبها قطف الأزهار وفصل الشعيرات الحمراء عنها، وهي عملية حساسة تتطلب أيادي النساء لما تحتاج إليه من رفق ودقة.

وتوضح خنفر لـ'اندبندنت عربية' أنه من الناحية التقنية، يعتمد الفلاحون على أساليب متطورة، تبدأ من تحاليل التربة والتأكد من ملاءمتها، مروراً بطرق السقي الحديثة، وصولاً إلى التعليب الذي يراعي معايير الجودة.

وأشارت إلى 'أن الإشكال الأكبر يكمن في التسويق، فالمجتمع الجزائري لم يدرك بعد القيمة الحقيقية لهذا المنتج، مما يجعل المردود الاقتصادي أقل من الإمكانات المتاحة'.

وتابعت المتحدثة 'أرى أن التحدي الحقيقي لا يكمن في الزراعة بحد ذاتها، بل في بناء استراتيجية ترويجية فعالة. فالتعريف بالزعفران عبر الحملات الإعلامية، وإدماجه في المطبخ الجزائري، وربطه بالهوية الثقافية المحلية، كلها خطوات من شأنها خلق طلب داخلي متزايد. كذلك فإن فتح قنوات للتصدير نحو الأسواق العالمية سيحول هذه التجربة من مجرد زراعة محدودة إلى قطاع استراتيجي قادر على الإسهام في تنويع الاقتصاد الوطني'.

يرى المتخصص الجزائري في الاقتصاد الريفي والتنمية الزراعية عابد فاتح، أن هذا النوع من الزراعات مهم جداً من الناحية الاقتصادية لملائمة الظروف (الطبيعية، البشرية، الاجتماعية) المحيطة بهذه الزراعة في الواقع الجزائري، ويمكنها أن تكون أحد المخارج الاقتصادية المهمة لبعض المناطق والأقاليم.

يقول عابد لـ'اندبندنت عربية' إن هذا النوع من الزراعات يؤدي دوراً كبيراً في الاقتصاد الريفي، فمنذ القدم تختص بعض المناطق بزراعات معينة، وهذا ينتج توارث للمهنية والتحكم والإلمام بهذه الزراعة، مما ينطبق على زراعة الزعفران.

ويضيف أن زراعة الزعفران توفر مورداً مهماً للأفراد، وتعتبر مصدر تثبيت للساكنة في الأرياف لخلق ديناميكية جديدة، خصوصاً مع تنامي ظاهرة النزوح للسكان من الأرياف نحو المدن خلال العقود القليلة الماضية.

ويشير المتحدث إلى أن 'الظروف المناخية مهمة جداً، إذ إن أكبر دولة منتجة للزعفران وهي إيران لديها مناخ وتضاريس ونوعية تربة مشابهة لبعض المناطق بالجزائر مثل تيسمسيلت وتيارت وعين تيموشنت وسوق أهراس وباتنة وبسكرة'.

واستدرك 'لكن يبقى النشاط في إطار هاوٍ بانتظار التحول نحو الإنتاج الاقتصادي والتصنيع، وهو ما يتطلب تأطيراً خاصاً من طرف السلطات الفلاحية عبر وضع استراتيجية مدروسة بإشراك جميع المتعاملين والمتدخلين في هذا القطاع'.

وأضاف أن نشاط زراعة الزعفران يدخل في إطار الاقتصاد الأسري بصورة خاصة، بالنظر إلى ظروفه الزراعية، إذ يبدأ في الإنتاج بعد عامين ويستمر إلى غاية ستة أعوام، وتعد عملية الحصاد أصعب المراحل، وهي عملية دقيقة وتتطلب تركيزاً وجهداً بدنياً كبيرين.

وأوضح أن غالب الدول المنتجة للزعفران تتميز بظروف مناخية تشبه ظروف الجزائر، لكن الفوارق تتمثل في مدى التزام السياسات الحكومية لتثمين مثل هذا التوجه، وفي ترتيب الأولويات الاستراتيجية. وتابع 'أظن أن على الدولة الآن خلق التخصصات الزراعية كالزعفران ومواد فلاحية أخرى، والاهتمام بها ليس فقط بتوفير التسهيلات اللازمة، بل بالمرافقة والتوجيه لأن هذه المواد ليست للاستهلاك اليومي كأية مادة فلاحية، لكنها مواد ثمينة لها أسواقها وطقوسها الاقتصادية الخاصة، لذا وجب الإحاطة بها في جميع جوانبها'.

ويرى عابد فاتح وجوب تأطير للمزارعين، والخروج من الوضع الموازي وتفادي الفوضى في الإنتاج والتسويق في جميع الزراعات الخاصة بإنتاج التوابل، وذلك عبر جمعيات أو تعاونيات، وإعطاء فرصة للفلاحين وتوجيههم إلى هذا النوع من الزراعات لمردوديتها العالية واستدامتها، وخلق شعب فلاحية جديدة خاصة بالزعفران وبقية التوابل التي تستوردها الجزائر من الهند خصوصاً مثل الحلبة والزنجبيل، فيما تبقى أكبر دولة مستهلكة لهذه المواد هي الولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج، مما يدل على أهمية السوق.

وتقف أمام منتجي الزعفران في الجزائر تحديات تبدأ من ندرة الماء وتذبذب الأمطار وما تفرضه من اعتماد صارم على الري الموضعي، مروراً بكلفة البصيلات والشتائل وضرورة إدارة صحية دقيقة لتفادي الأعفان، وصولاً إلى عنق الزجاجة في ما بعد الحصاد: التجفيف المعياري والتحليل المخبري والتعبئة المحترفة والتعريف التجاري. يضاف إلى ذلك تشتت المنتجين وضعف التنظيم التعاوني، وصعوبة الولوج إلى التمويل الصغير والمعدات الملائمة، وغياب مخابر قريبة للاعتماد الحسي والكيماوي وفق ISO 3632، ومنافسة أسواق متمرسة كإيران وإسبانيا والمغرب. وعلى رغم مبادرات المواكبة، فلا تزال الخدمات الإرشادية والبحث التطبيقي محدودة حيال اختيار الأصناف واستراتيجيات الرفع من الغلة من دون التفريط في الجودة.

وبين طموح بناء سلسلة قيمة فاخرة وإكراهات الواقع المناخي والمؤسسي، تقف زراعة الزعفران في الجزائر على عتبة اختبار حاسم، فإما أن تتحول إلى نموذج ذكي للزراعة ذات القيمة العالية والمردودية الاجتماعية عبر تنظيم المنتجين، وتطوير شهادات الجودة والمؤشرات الجغرافية، وفتح منافذ تصدير مدعومة بالتحليل والاعتماد، أو تبقى تجربة واعدة تقيدها حلقات ضعيفة في التمويل والتسويق والمعايير.