«الأول من نوعه».. المظفر أعاد للمسرح الكويتي بريقه المفقود

أمجد جمال

أكثر من 15 مسرحية تُعرض الآن في الكويت منذ بداية موسم عيد الفطر، وبالرغم من التنوع الملحوظ من حيث المواضيع والنجوم والأساليب الفنية، يبقى للمسرح الاجتماعي الكوميدي سحره الخاص على الجمهور، حيث جاءت مسرحية «الأول من نوعه» للفنان خالد المظفر (بطلا ومُنتجا) لتخطف الانتباه وتنال الإقبال الأكبر، وهو الفنان الذي نجح عبر الأعوام الماضية في بناء جسر ثقة متين مع الجمهور الكويتي، بعروض حققت المعادلة الصعبة: الإمتاع وإثارة الأفكار والرسائل الإيجابية والبقاء في الذاكرة.

ما جعل من الصعب العثور على مقعد شاغر لمشاهدة عرضه الأحدث على مسرح سوق شرق، حيث ترتفع لافتة «كامل العدد» لثلاثة أسابيع -مقدما- من الآن، رغم أن المسرحية تُعرض مرتين بشكل يومي.

مسرحية «الأول من نوعه» من تأليف وإخراج عبد العزيز صفر، وتنتمي لنوعية الكوميديا الرومانسية والاجتماعية، فيرتكز موضوعها على التحديات التي تواجه العلاقات العاطفية ومؤسسة الزواج في زمننا المعاصر. بين ضغوطات تفرضها العائلات والعادات والتقاليد من جهة، وبين المعضلات الفلسفية التي يفرضها زمن العولمة من مؤثرات نفسية وإعلامية ورقمية تتلاعب بمصائر العلاقات من الجهة الأخرى. حيث تحاول المسرحية الإجابة عن سؤال: هل بات من المستحيل نجاح العلاقات الزوجية وسط كل هذه العقبات والمشتتات والمؤثرات؟

تبدأ أحداث المسرحية بمشهد تمهيدي للقصة، حيث يجتمع خبراء نفسيون وأكاديميون من أجل مناقشة الصراع الأزلي بين الجنسين، وكيف أنه مع تطور العصر أصبحت الصورة أكثر شؤما على حال العلاقات بين الرجل والمرأة، وبالتزامن مع الاستقلالية والقوة المتنامية التي تتحصل عليها حواء في المجتمع ومساواتها مع الرجل في الحقوق والالتزامات. وإذا ما كانت تلك الندية تساهم في ارتفاع ملحوظ لمعدلات العزوبة والطلاق، والإضراب عن الزواج.

الأول من نوعه!

لحل هذه المعضلة يقدم أحد الباحثين تجربة اجتماعية بعنوان «الأول من نوعه»، وهي لحالة استثنائية نجحت بتجاوز كل العقبات المطروحة لتأسيس الزواج السعيد، بفضل التزام أطرافها ببعض القواعد والتعليمات التي تساهم في إنجاح العلاقات. تلك الحالة الاستثنائية لرجل اسمه «طلال» (خالد المظفر) بطل المسرحية والذي سنتابع تفاصيل قصة حبه وزواجه من «طيبة» (أريج العطار).

أستاذ علم الحشرات

طلال أستاذ جامعي خبير في علم الحشرات، يقع في حب تلميذته طيبة، وتتطور علاقتهما بالنمط الكلاسيكي، خطوبة يتبعها زواج فشهر عسل، ثم مشاكل، ثم انفصال.

من هنا نلاحظ أن عنوان المسرحية يقوم على مفارقة لفظية، إذ إن «الأول من نوعه» أو بطل تلك التجربة الاجتماعية ليس الأول من نوعه بأي حال، بل هو حلقة جديدة في سلسلة العبث الاجتماعي والإخفاقات الزوجية، رغم التزامه بكل القواعد والتعليمات المنصوصة ببحث «الأول من نوعه». ما يحيلنا إلى أن العلاقات الإنسانية أكثر تعقيدا وصعوبة من أن يتم ترويضها ببعض الكلام النظري الذي نقرأه في كتب التنمية الذاتية. نعلم منذ بداية المسرحية أن التجربة فشلت، لكن تأتي أحداث المسرحية لتُعلمنا، بنظرة ناقدة، عن مواطن الإخفاق بالضبط؛ من أجل تأملها ثم تصويبها.

في البدء كانت الفراشات

«أستاذ في علم الحشرات» هي المهنة التي اختارها عبد العزيز صفر لبطل قصته «طلال»، كي تتناسب مع طبيعة هذه الشخصية الكاريكاتيرية، والمهنة عنصر شيّق بحد ذاته، إذ تحتمل عددا من الدلالات والتأويلات. أولا دلالة فكاهية، وقد برع خالد المظفر في استغلالها في كثير من اللقطات عن طريق لزمات كلامية وأداء أصوات ودعابات مضحكة بحق.

وهناك دلالة فلسفية، إذ إننا كبشر يجب ألا ننسى كوننا مخلوقات اجتماعية حميمية بطبعها، أسست حضارتها على التزاوج وفقا لفلسفات راقية وراءها معنى وهدف وإدراك، تفرقنا عن بقية المخلوقات كالحشرات مثلا.

وثالثا دلالة مشهدية، حيث أن لقاء الإعجاب الأول بين «طلال» و«طيبة» يحدث خلال محاضرة عن تشريح «الفراشة» بالتحديد. وهي حشرة تتمتع بدلالة في الثقافات الشعبية حول العالم، إذ تقترن حالة الوقوع في الحب الرومانسي اللاعقلاني مع خفقان القلب السريع بما يعرف بـ«إحساس الفراشات». وهو بالضبط ما حدث لـ«طلال» مع وقوع عينيه على «طيبة».

كوميديا الموقف في أبهى حال

اعتمد البناء الدرامي للمسرحية على تخصيص لوحة مشهدية لكل مرحلة من مراحل العلاقة بين «طلال» و«طيبة»، بالترتيب الزمني الطبيعي. الوقوع في الحب، التعارف، الخطوبة، الزواج، شهر العسل، ما بعد العسل، الانفصال، الندم. في كل لوحة منها نرى إشارات ودلالات تفكك تلك العلاقة بطرح فكري بسيط لا يخلو من المتعة الذهنية.

«الأول من نوعه» تحكي القصة المعتادة لكن بأسلوب غير معتاد، يعتمد على المفارقة والنقد الاجتماعي والكوميديا التفاعلية. نحن المتفرجون ضحكاتنا ترُجّ قاعة المسرح، لكننا في الحقيقة لا نضحك على تلك الشخصيات، بل نضحك على أنفسنا، لأن المسرحية تنجح في جعلنا نرى حياتنا بعدسة هزلية من خلال ما يجري على خشبة المسرح، وعلى هيئة أنماط إنسانية نعرفها جيدا. بمواقف كوميدية مركبة، ودعابات ذكية تثير التفكير قبل أن تثير الضحك.

الباروديا والخروج عن النص

النص لا يتوقف عند تحليل الحالة الاجتماعية والعاطفية، بل يصوّب سهامه تجاه الحالة الإعلامية والفنية المتردية، وذلك بتقديم فواصل رائعة من الباروديا (المحاكاة الساخرة) للمسلسلات والأفلام والأغنيات الهابطة، ويشرح كيف أن الكثير منها يقوم بتسطيح الوعي وإضعاف الحس الجمالي.

بالإضافة لكون هذه الإنتاجات الثقافية قد تعمل مع المؤثرات المحيطة في إفساد العلاقات العاطفية والزوجية، إما برفع سقف التوقعات، وإما بإثارة الفتن والشكوك. مثلها كمثل الهواتف الذكية وغيرها من المؤثرات والمُلهيات التي يجب أن نجد طريقة لضبط تعاملنا معها من أجل الفائدة. بجانب الباروديا، تستخدم المسرحية أسلوب «كسر الإيهام» أو «كسر الحائط الرابع» على طريقة بريخت، والمصطلح يعني أن أبطال المسرحية يخبرون المتفرج بأنه أمام مسرحية لا واقع، سواء بشكل مباشر أو بالتلميح أو بالدعابات التي يخرج فيها الممثلون عن النص فينادون بعضهم بأسمائهم الحقيقية أو بوظائفهم. وقد تم توظيف هذه الأداة بشكل جيد في المسرحية.

من القليل يأتي الكثير

تميزت ديكورات المسرحية بالاقتصاد والعملية والبساطة المعبرة، فمن القليل يأتي الكثير. حيث اعتمدت المسرحية على منظر واحد ثابت لمنزل «طلال»، ولكن في عمق مقدمته تتغير بعض التفاصيل لتحيلنا لكثير من الأماكن المختلفة، من قاعة محاضرات لقاعة سينما لقاعة محكمة، وغيرها من الأماكن، بدينامية لا تضيع الوقت والجهد في هذه التحولات.

في أحد المشاهد التي جمع بين «طلال» و«طيبة» والمحامية «إيمان فيصل»، حيث تشك «طيبة» بأن زوجها يخبئ امرأة أخرى داخل المنزل وتطاردها في الغُرف، في ذلك المشهد لعب الديكور دور البطولة.

موسيقى تصويرية وتوزيعات

أما على مستوى الصوتيات فهناك تميز كبير للموسيقى التصويرية وتوزيعات الأغاني التي قدمها الموسيقار براك المطوع، خصوصا بالأغنية الأولى «عالم العشاق» من ألحان خالد المظفر الذي شارك في غنائها مع عايض، وكتبها محمد الشريدة. تستخدم الأغنية إيقاع المقسوم المبهج والبسيط وتتميز بالفواصل الرقيقة بآلة الأكورديون، وباللحن الرومانسي العذب، والذي يتحول في أجزاء المسرحية إلى تيمة موسيقية مكررة تُنعش الأحداث كلما حلّت.

فيما تألق كل أفراد الكاست التمثيلي، وقدموا أداء جيدا، خصوصا أن معظمهم لعبوا شخصيات متنوعة داخل الأحداث وأدوها جميعا بجودة متسقة.

بينما يواصل خالد المظفر تألقه وتثبيت نجوميته وسُمعته المسرحية، وهو يجسد تلك المرة شخصية مسرحية صعبة، «طلال» الذي يجمع بين سذاجة وضعف العشاق، وبالوقت نفسه دهاء وقوة الرجل المثقف الأكاديمي، حاضر الذهن، حاد السخرية. حضوره المسرحي مذهل، وطاقته التمثيلية كانت تفيض فوق خشبة المسرح، حتى بالمشاهد التي لا يظهر بها.

«الأول من نوعه» هو العرض المسرحي الذي نحتاجه في هذا الوقت. مسرح يتناول أفكارا تعني معظم أفراد المجتمع دون أن يثقل على المتفرج؛ فهو يراهن على المتعة والتسلية قبل كل شيء.