حرب الرواية الممنوعة: التعتيم الصهيوني على الضربة الإيرانية
klyoum.com
أخر اخبار فلسطين:
مستوطنون يحرقون أراضي زراعية شمال شرق رام اللهلم تكن الضربة الإيرانية مجرد ردّ عسكري على عدوان، بل تحوّلت إلى زلزال سياسي وأمني داخل الكيان الصهيوني، زلزال حاول الاحتلال احتواؤه لا بقدراته الدفاعية، بل بمنظومة التعتيم والتضليل، ومع بدء الصواريخ الإيرانية في استهداف العمق، تحركت آلة الرقابة العسكرية الصهيونية بسرعة، ليس لردع الهجوم، بل لمنع تسريب الرواية الحقيقية لما جرى.
هذا التعتيم لا يُعبّر عن قوة بقدر ما يكشف هشاشة الجبهة الداخلية، وقلق المؤسسة الأمنية من أن تتحوّل الخسائر المادية والبشرية إلى شرخ استراتيجي في الوعي الجماهيري الصهيوني، ومن هنا تبدأ معركة أخرى: حرب الرواية، وسلاحها الحقيقة.
منذ نشأة الكيان الصهيوني لم يكن الإعلام جزءً من فضاء الحقيقة، بل أداة مركزية في بناء الأسطورة وتزييف الواقع، ومن رحم هذه العقيدة وُلد ما يُعرف في الدوائر الصهيونية بـ "الرقابة الوقائية"، وهي ليست مجرد تدخل لاحق على المحتوى، بل هندسة مسبقة للسردية تُراعي الأمن المعنوي للجبهة الداخلية أكثر مما تُراعي الحقائق.
في كل مواجهة عسكرية يتكرّر السيناريو ذاته: ضربة تُربك، فتتبعها حملة تعتيم ممنهجة، تُدار من غرفة عمليات إعلامية يُطلق عليها "هَسْبارا" (الدعاية التفسيرية)، حيثُ تُمنع التغطية، تُصادر الصور، يُمنع الصحفيون من الاقتراب، وتُكتب البيانات بعبارات فضفاضة مثل "سُمع دوي انفجار" أو "أضرار مادية طفيفة"، والحقيقة تُذبح على أعتاب "الوحدة 8200" وأخواتها، التي ترى أن المعلومة الميدانية قادرة على إشعال الذعر أكثر من القصف ذاته.
وما الرقابة العسكرية إلا الذراع التنفيذية لهذه العقيدة، فهي لا تراقب المحتوى فقط، بل تُعيد إنتاجه بما يخدم الاحتياج النفسي للجمهور الصهيوني، وحماية صورة جيشه بوصفه لا يُقهر، الصورة هنا ليست توثيقاً بل تهديداً، لأن العدسة قد تكشف ما يرفض الاحتلال الاعتراف به: أن الجبهة الداخلية ليست محصّنة، وأن البنية التحتية الاستراتيجية يمكن أن تُخترق، وأن اليد التي تقصف يمكن أن تُصاب.
إن تعمّد التكتّم على الخسائر ليس مؤشر قوة، بل علامة على هشاشة الردع النفسي، فالدول الواثقة تُظهر حجم الخسارة كمدخل للمحاسبة أو كدليل على التضحية، أما الكيان المحتل فيخاف من الرقم، من الصورة، من الجملة غير المرخّصة، لأنه يعرف أن الوعي إذا انكسر، انكسر السلاح الذي يُمسكه.
لم تكن الصواريخ الإيرانية في دقّتها ومداها، مجرد أدوات اشتباك، بل رسائل استراتيجية مشفّرة اخترقت عمق الكيان، مادياً ونفسياً، ومع كل انفجار في منشأة، ومع كل صفير إنذار في مدن المركز، بدأت ملامح الهلع تظهر لا في البيانات الرسمية، بل في شروخ البنية التحتية، وصمت المطارات، ووجوه السكان، فالمنشآت الحيوية التي تضرّرت لم تكن أهدافاً عشوائية؛ بل اختيرت بعناية لترسل رسالة واضحة: لا خطوط حمراء بعد اليوم، ولا عمق آمن تحت المظلّة الصهيونية، فتعطّلت مطارات، جُمّدت حركة الطيران، اهتزّت غرف العمليات العسكرية، وانتشرت شهادات متفرقة من مستوطنين يتحدثون عن حرائق، عن صواريخ لم تُعترض، عن لحظات ذعر لم يعهدوها منذ عقود.
ومع ذلك لم يخرج من الاحتلال اعتراف واضح، لماذا؟ لأن الاعتراف بالخسارة وفق العقيدة الصهيونية الأمنية، ليس مجرد إقرار بالضرر، بل اختراق في جدار الردع، وشرخ في صورة "الجيش الذي لا يُهزم"، الدولة التي بُنيت على التفوّق النوعي، ترى في الاعتراف بالضربة تهديداً مزدوجاً: انهياراً في المعنويات الداخلية، وجرأة إضافية من أعدائها، ومن هنا فإن إدارة الهلع المستتر أصبحت هدفاً بحدّ ذاته، فبدل أن يُعلن الاحتلال عن خسائره، يُغرق المشهد في صمت رسمي، ويُطلق أجهزته لملاحقة من يحاول التصوير أو التوثيق، وكل ذلك في محاولة لإبقاء الواقع مُجمّداً، لأن الاعتراف بالخسائر ليس مجرد إخبار، بل لحظة انهيار للسردية العسكرية بأكملها، وهكذا يتجلّى الفارق بين من يردّ بصواريخه ويُعلن، وبين من يتلقى الصدمة ويخشى الإقرار، فالردّ الإيراني لم يصب المواقع فقط، بل كشف حالة إنكار أمنية يعيشها الكيان كلما اهتزّ توازنه المفترض.
في الحروب التقليدية تكون الكاميرا أداة توثيق، أما في الحروب التي يخوضها الكيان الصهيوني، فالكاميرا تتحوّل إلى خطر أمني وتهديد استراتيجي، لأنها تكشف ما يحاول الاحتلال دفنه: هشاشة الجبهة الداخلية، وامتداد الضربة إلى عمق كان يدّعي تحصينه، ومنذ اللحظات الأولى للرد الدفاعي الإيراني لم يكن المستهدف فقط هو المنشآت والمطارات، بل أيضاً الوعي الجماهيري داخل الكيان، ومع تساقط الصور الأولى للحرائق والانفجارات على شبكات التواصل، انطلقت آلة القمع الصهيوني لتخوض معركتها الجديدة: خنق الصورة قبل أن تصل، ومطاردة الحقيقة قبل أن تُروى.
صحفيون صهاينة مُنعوا من تغطية آثار الضربة، وسكان الداخل المحتل تعرّضوا للتحقيق أو الحذف القسري لمواد التوثيق من هواتفهم، ذلك أن الاحتلال يدرك أن كل صورة تُسرّب وكل مقطع يُنشر، يُشكّل كسراً لروايته الأمنية، ويُعيد تشكيل وعي المستوطن الصهيوني الذي تربّى على فكرة الدولة المحصّنة، وبهذا المعنى لم تعد الكاميرا أداة نقل، بل عدو داخلي يُهدد بنية الردع النفسي التي تقوم عليها المؤسسة العسكرية الصهيونية، ومن هنا باتت الصورة تُطارَد كما يُطارَد المقاتل، لأن من يفضح آثار الضربة، يُساهم -دون أن يحمل سلاحاً- في إسقاط أسطورة "الضربة الاستباقية" و"المخابرات اليقظة، فالاحتلال الذي يسابق الزمن لمنع التسريب، يدرك أن المعركة باتت مزدوجة: صاروخ في السماء، ولقطة في الميدان، كلاهما يُحدِث اختراقاً، وكلاهما يُعيد ترتيب مشهد القوة والضعف، وفي زمن الإعلام المفتوح لم تعد الكذبة محصّنة، ولم تعد الرقابة قادرة على حجب الهزيمة.
حين يُغلق الاحتلال عدسات الكاميرا، ويُصادر الرواية من أفواه الصحفيين، لا يبقى أمام الحقيقة إلا أن تبحث عن مسالك بديلة، وهنا يظهر دور الإعلام المقاوم، لا بوصفه وسيلة نقل، بل باعتباره فاعلاً في معركة الوعي وسلاحاً مضاداً للرواية الصهيونية المُعلّبة، ففي ظل التعتيم الصهيوني الممنهج لا تكفي الأخبار المقتضبة ولا البيانات الرسمية، المطلوب هو رواية مضادة، تُعيد تشكيل المشهد من وجهة نظر الشعوب لا الجيوش، ومن زوايا الواقع لا حسابات الغرف الأمنية، وهنا يتقدّم الإعلام المقاوم كقوة تفكيك للرواية الإسرائيلية، لا بالصوت فقط، بل بالصورة، بالتفاصيل، وبالوجوه التي ترتجف خلف الدخان.
التوثيق البصري لم يعد ترفاً إعلامياً، بل ضرورة استراتيجية، فكل مشهد لدمار في الداخل المحتل، كل شهادة من مستوطن مذهول، كل فيديو مسرّب من موقع أصابته الصواريخ هذا يُعد خرقاً مباشراً للرواية الرسمية الصهيونية، وتثبيتاً للرواية البديلة التي تكشف ما يُخفيه العدو، إنها لحظات الحقيقة التي تتجاوز الجغرافيا، وتكسر احتكار الصوت والصورة، فالإعلام المقاوم حين يتحرّك ضمن رؤية واعية، يتحول إلى ما يشبه غرفة عمليات شعبية تُدير الوعي العام وتقوّض أسطورة العدو القوي الصامت، وبهذا لا يقتصر دوره على التغطية، بل يبني ذاكرة جماعية جديدة، قوامها: الكلمة المقاومة، والصورة المُسربة، والسردية التي لا تموت بالتعتيم، هكذا في معركة الردع، قد تُسكت الصواريخ، لكن لا تُسكت الحقيقة إذا وجدت من ينقلها، والإعلام المقاوم هو اليوم أكثر من أي وقت مضى، صوت الشعوب الذي لا يُراد له أن يُسمع.
وحين اختارت طهران أن تردّ، لم تكن الغاية فقط إحداث ضرر ميداني، بل تفكيك معادلة الهيبة الصهيونية التي طالما قايض بها الاحتلال خصومه، فكل صاروخ انطلق من الأراضي الإيرانية لم يُصِب هدفاً عسكرياً فحسب، بل وجّه ضربة إلى الرمز الذي ظلّت المؤسسة الأمنية الصهيونية تبنيه لعقود: دولة لا تُمسّ، ولا تُخترق، ولا تُحرج، وفي هذا السياق.. لا يبدو التعتيم مجرد تكتيك دعائي، بل محاولة أخيرة للتمسك بما تبقى من تلك الهيبة المتآكلة، فالصورة التي تُظهر دمار القواعد والمطارات ليست مجرد مشهد بصري، بل رصاصة معنوية تخترق الثقة الشعبية بقدرة الجيش على الحماية، ولهذا السبب تسابق الاحتلال لإطفاء الصورة قبل أن تشتعل في وعي جمهوره، مدركاً أن العدو الحقيقي بعد الضربة هو الانكشاف الرمزي، لا الأضرار الفيزيائية فقط.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمنع التعتيمُ انهيار المعنويات؟ الحقيقة أن الحقائق حين تُمنَع، تُصبح أكثر فتكاً حين تُكشف، فالتكتّم لا يلغي الصورة، بل يؤجلها ويحوّلها إلى قنبلة تأويلية حين تنفجر لاحقاً على يد الإعلام المقاوم أو تسريبات الداخل، وهنا يصبح الحجب سلاحاً مرتدّاً، يعمّق الشكوك، ويفتح أبواب السخط الشعبي الصامت، والأخطر من ذلك أنّ الحقيقة التي تُمنع داخل الكيان، تتحوّل خارجه إلى سلاح تعبوي في يد الشعوب والمقاومات، فالصورة المسروبة والشهادة المحظورة والاعتراف المُهرّب من خلف خطوط الرقابة كلها تتحوّل إلى ذخيرة رمزية تُعيد توازن الخطاب، وتمنح الشعوب المقهورة لحظة نادرة من الانتصار المعنوي، بمعنى آخر.. الضربة لم تُسقط مبنى فقط، بل أسقطت جزءً من الأسطورة، وتلك هي المعركة الحقيقية التي تبدأ بعد الصمت، وتُحسم في ميدان الوعي لا في ميدان المعركة فقط.
ختاماً.. في مواجهة الردّ الإيراني، لم يكن العدو الصهيوني يخشى الصواريخ بقدر ما يخشى الكاميرات، لم يكن الهلع فقط من حجم الضربة، بل من قدرتها على كسر حاجز الهيبة التي بُنيت بإحكام عبر عقود من الحرب النفسية والتضليل الإعلامي، ولذا..
جاء التعتيم لا كخيار طارئ، بل كـ "عقيدة بقاء" يحاول الاحتلال من خلالها ترميم صورته أمام جمهوره المرتبك، لكن في زمن الصورة المفتوحة والسرديات المتحرّرة، لم يعد الصمت يحمي بل يفضح، ولم يعد الحجب يمنع الانكشاف بل يُسرّع انهياره، لقد كشفت هذه الجولة أن الحقيقة لم تعد تكتبها الجيوش وحدها، بل تنقلها الشعوب، وتوثّقها العدسات، وتصوغها الإرادات الحرة.
وعليه، فإن التحدي اليوم لا يكمن فقط في إسقاط الصواريخ، بل في إسقاط الرواية الصهيونية، وفكّ هندسة الوهم التي تحيط بـالجيش الذي لا يُهزم، إنها معركة وعي بامتياز، تُدار في الميدان كما تُدار في العقول، ومع كل صورة تُكسر، وكل سردية تُفضح، تضعف القبضة، وتتصدّع الأسطورة.