اخبار فلسطين

وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

سياسة

فارس الخوري امة في رجل

فارس الخوري امة في رجل

klyoum.com

الكاتب:

د. محمد عودة

في دمشق القديمة، بين الأزقة الضيقة والجدران العتيقة التي تحمل ذكريات الأبطال بدأت حياته العامة، وُلد فارس الخوري فيما يعرف اليوم بلبنان ليصبح رمزًا للوطنية الحقيقية. لم يكن مجرد سياسي أو مفكر، بل كان سوريا نفسها، الأرض، الشعور، الكبرياء والشعب. كل حركة له، كل كلمة قالها، كانت مرتبطة بحبه للوطن، بحلمه أن تكون سوريا حرة، مستقلة، موحدة، لكل أبنائها دون تفرقة.

وُلد فارس الخوري في قرية كفير في جبل لبنان عام 1877، في بيت علمي مثقف. كان منذ صغره يفتش عن المعرفة، يقرأ ويكتب، ويستوعب معنى الوطن. درس الحقوق في الجامعة الأمريكية ببيروت، لكنه لم يكتفِ بالعلم النظري، بل جعله سلاحًا للنضال، وسلاحًا للحق وللحرية. كان يرى أن الوطن مسؤولية كل يوم، وأن الكرامة لا تُكتسب إلا بمواقف فعلية.

بدأ حياته السياسية في مجلس بلدية دمشق، ثم انتقل إلى مجلس المبعوثان العثماني (المجلس النيابي). لكن قلبه لم يكن مع الجلسات الرسمية وحدها، بل مع الناس، مع كل سوري يشعر بالظلم، مع كل فقير ومقهور. وقف ضد الاحتلال الفرنسي، شارك في الثورة الوطنية، وأثبت أن الانتماء للوطن أكبر من أي طائفة أو مصلحة شخصية. كل خطبه كانت رسائل، وكل جلساته معارك من أجل الحق.

وعند ذكر فارس الخوري لا بد أن نتوقف عند جلوسه على مقعد فرنسا في الأمم المتحدة، موقف يبدو بسيطًا على الورق لكنه كان صدمة لكل من يظن أن سوريا بلا صوت. طلبوا منه أن يترك المقعد لأنه مخصص لفرنسا، لكنه جلس وقال بصوت هادئ لكنه حازم: إذا كانت فرنسا قد احتلت بلادنا لحمايتنا، فها أنا أجلس مكانها لأحمي حقوقنا. لم يكن مجرد موقف دبلوماسي، بل درس في الوطنية والشجاعة، ورسالة لكل من يعتقد أن الحقوق تُهدَر.

ولم تتوقف شجاعته هنا، فقد صعد فارس الخوري يومًا إلى منبر الجامع الأموي في دمشق، وخاطب الفرنسيين الذين ادعوا أنهم جاءوا لحماية المسيحيين، فرد عليهم بأن المسلمين والمسيحيين في سوريا موحدون، وطن واحد وشعب واحد، وأن سوريا لا تحتاج إلى حماية من محتل أجنبي، بل إلى أن يخرج المستعمر من أرضها. كل كلمة قالها كانت كنبض قلب الوطن، وكل نظرة كانت رسالة بأن الكرامة لا تُباع.

لم ينسَ فارس الخوري فلسطين، لم يكن مجرد سياسي سوري، بل كان صوت الأمة العربية. وقف ضد تقسيم فلسطين، رفض التنازل عن أي جزء من أرضها، ودافع عن الشعب الفلسطيني في كل محفل دولي. كان يرى أن حقوق الإنسان تبدأ من الأرض، وأن الكرامة الوطنية لا تُقاس بوعود، بل بأفعال حقيقية تُحمي الشعوب. في كل اجتماع، في كل خطاب، كانت فلسطين حاضرة في قلبه كما لو كانت جزءًا من دمشق نفسها.

ورغم حبه للوحدة العربية، كان فارس الخوري واعيًا جدًا لخطورة فقدان الهوية الوطنية. رفض الاتحاد الاندماجي مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، مؤكدًا أن سوريا لها الحق في تقرير مصيرها، وأن الحرية والسيادة ليست شعارات، بل حياة وكرامة لا يمكن التفريط بها. كان يقول دائمًا: الوطن حريته أولى من كل اتحاد يُهدد كيانه.

كان فارس الخوري قريبًا من الناس. يعرف وجوههم في الأسواق، يسمع شكواهم، يشاركهم فرحهم وحزنهم. كان مدرسا في جامعة دمشق عندما حضر أحد الطلاب متأخرًا فسأله عن سبب التأخير، فأجابه التلميذ بأنه يعمل فحامًا في الليل ليغطي مصاريف إخوته. فما كان من الخوري إلا أن قبّل يده الملوثة بغبار الفحم. من شعاراته أن الوطنية ليست كلمات على الجدران، بل أفعال يومية صغيرة. كان يعطي مثالًا حيًا أن الوطنية تبدأ من التفاصيل: من مساعدة فقير، من الوقوف ضد الظلم، ومن قول الحقيقة دائمًا.

توفي فارس الخوري في 2 يناير 1962، لكن ذكراه لم تمت. جنازته كانت شاهدة على حب السوريين له، نعشه غُطّي بالعلم السوري تكريمًا لرجل جسّد معنى الوطنية بكل أبعادها. الأجيال تعلمت منه أن الوطنية ليست كلمات على ورق، بل أفعال تُخلّد في التاريخ، ومواقف تُحفر في ذاكرة الأمة.

اليوم، كل مرة نتذكر فارس الخوري، نتذكر وطنًا واحدًا، شعورًا واحدًا، حلمًا واحدًا. نتذكر شجاعته ومواقفه، كل لحظة صعد فيها المنابر، جلس على المقاعد التي لا تُعطى إلا للقوي، وقف دفاعًا عن حقوق بلده، وعن الحق العربي، وعن الإنسانية. فارس الخوري علمنا أن حب الوطن يعني الشجاعة والصدق والتضحية، وأن الوطنية الحقيقية لا تُخضع لأي اعتبار شخصي أو طائفي. فما أحوج الأمة لألف فارس الخوري.

*المصدر: وكـالـة مـعـا الاخـبـارية | maannews.net
اخبار فلسطين على مدار الساعة