الأخلاق في السياسة الدولية.. بين السيرة النبوية وواقعنا المعاصر
klyoum.com
حين يعلو غبار المعارك، ويشتد صليل السلاح، يُخيَّل لك أن السياسة خرجت من نطاق الأخلاق، وأن الواقعية لا تقبل خطابًا يذكّر بالقيم أو يحتكم إلى العدل. ولكن نظرة فاحصة إلى ما يجري في العالم، وفي منطقتنا، وخاصة في غزة، تكشف في جوهرها عن أزمة أعمق من مجرد صراعات حدود أو توازنات قوى؛ إنها أزمة قِيَمية بامتياز، أزمة في التعامل مع الإنسان، وفي الالتزام بالعهد، وفي توظيف القوة؛ وهي أزمات عرفها التاريخ من قبل، وواجهها النبي محمد ﷺ في أعقد مراحل بناء دولته ومجتمعه، وفي سياق سياسي لم يكن يختلف كثيرًا عن واقع التوحش الدولي اليوم، وإن اختلفت الأدوات.
أخلاق القوة.. بين تجربة النبوة وانحراف الهيمنة
في السيرة النبوية، لا يُقرأ الصراع بوصفه تصادمًا عسكريًّا مجردًا، بل باعتباره اختبارًا دائمًا للقيم في وجه الإكراه. وقد تميزت المرحلة المدنية -في كل ما حفلت به من صراعات مع قوى قريش والقبائل- بمنطق واضح: الردع لا يُبنى على الغلبة فقط، بل على احترام العهود، وحماية المدنيين، وتجنب الاستطالة في الدماء.
ولعل أبرز تجليات هذا المنطق كانت في صلح الحديبية، الذي قبله النبي ﷺ رغم ظاهره المجحف، إذ رأى فيه مساحة لفرض منطق العهد فوق منطق الغنيمة، ونافذة لضبط الصراع وفق قواعد واضحة. وهو ما مثّل نقلة في فهم السياسة من مجرد فن الممكن إلى فن الممكن الأخلاقي.
أما في الحالة المعاصرة، فقد شهدنا في العدوان على غزة انتهاكًا ممنهجًا لكل ذلك:
لا وجود لمعنى العهد، ولا اعتبار لحصانة المدني، ولا حرج من إعادة تعريف القانون الدولي بما يخدم نزعة التفوق العاري. إنها عودة صارخة إلى منطق الغاب، ولكن بثوب “شرعي” جديد تصوغه القوى الكبرى بعبارات فضفاضة عن الدفاع والأمن وحق إسرائيل في الوجود.
بين النبي وغزة.. شرعية الدفاع وسؤال القوة الأخلاقية
حين بُنيت الدولة النبوية في المدينة، لم يكن همّ النبي ﷺ أن يصنع جيشًا يجتاح به مكة، رغم ما ناله وأصحابه من أذى هناك، بل كان شغله الأول هو إرساء مبدأ التعايش، وهو ما تُرجم في “صحيفة المدينة”، أقدم وثيقة سياسية مدنية بين مختلفين في الدين. ولم تكن الغزوات الأولى بهدف الهجوم، بل ردًّا على التهديد، أو لقطع طريق التحالفات المعادية.
وفي غزة، نجد أن المقاومة لم تبدأ حربًا، بل كانت ردًّا على اقتحام المسجد الأقصى، وتمادي الاحتلال في السياسات الاستيطانية، واستمرار الحصار الخانق، ورفض كل المبادرات السياسية. ومع ذلك، يُصوّر الفعل الفلسطيني كعدوان، ويُشرعن الرد الإسرائيلي باعتباره دفاعًا. هذا الانقلاب في توصيف الفعل يُحيلنا إلى سؤال جوهري: من يُملك شرعية القوة في ميزان الأخلاق؟
النبي وعقدة الغلبة.. حين يكون العفو أسمى من النصر
من اللحظات الفارقة في السيرة النبوية، ما جرى يوم فتح مكة. دخل النبي ﷺ مكة التي أُخرج منها، ومعه جيش لم يكن لقريش به طاقة. ومع ذلك، لم يكن شعار المرحلة الانتقام، بل العفو. وقف النبي ﷺ بين أهل مكة قائلًا: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
لقد انتصر ولكن لم يتوحش، قدر على القصاص لكنه آثر الصفح، ليؤسس من تلك اللحظة نهجًا أخلاقيًّا يُقيد الفاتح بإنسانيته.
وفي المقابل، كشفت مشاهد المجازر المتواصلة في غزة –من قصف المدارس والمستشفيات، إلى استهداف قوافل الإغاثة، وتجويع المدنيين عمدًا– عن تفلّت كامل من هذا الضابط. لا شيء يُكبح، لا سقف للرد، ولا اعتبار للرأي العام، أو للقرارات الدولية، أو للضمير الإنساني. وكأن القوة أصبحت لا تعني القدرة على الردع، بل الترخيص بالتوحش.
أزمة القيم في السياسة الدولية.. سقوط الأخلاق وانكشاف الزيف
حين دخل النبي ﷺ مكة، أرسل خالد بن الوليد في سرية إلى بني خزيمة، فأساء التقدير وقتل منهم دون إذن واضح. فلما بلَغ الخبر النبي ﷺ، رفع يديه إلى السماء قائلًا: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”. ثم بعث عليًّا رضي الله عنه ليعدّل الموقف ويدفع الدية، ويُصلح ما فسد. كانت الرسالة واضحة: حتى في الحرب، لا تبرير لسفك الدم إن لم يكن مشروعًا. الدماء لا تُزهق باسم الانتصار.
أما اليوم، فإن الموقف الغربي من العدوان على غزة يُظهر انحيازًا كاملًا للقوة، لا للحق. أُسقط من الحساب كل ما يتصل بالكرامة والإنسانية، وتحولت غزة -بما فيها من مدنيين وأطفال ومُهجّرين- إلى مجرد “أضرار جانبية” في حرب يُراد لها أن تُصفّي حقًّا تاريخيًّا، وسردية مقاومة تُربك سرديات الهيمنة.
ولكن ما يغيب عن كثير من صناع القرار هو أن السرديات لا تموت بالقصف، بل تتجذر بالمعاناة. فكما أن النبي ﷺ لم يُهزم وهو خارج من مكة مطاردًا، بل عاد فاتحًا بعد سنوات، فإن غزة -رغم الدمار- تُراكم اليوم سردية أخلاقية تؤسس لمستقبل جديد.
في كل مرة يُطرح فيها سؤال الأخلاق في السياسة، يُسارع البعض إلى وصفه بالسذاجة أو المثاليةِ. لكن الحقيقة أن التاريخ يُثبت العكس. لم تسقط الإمبراطوريات بالهزيمة العسكرية فقط، بل حين انهار داخلها الإيمان بشرعيتها الأخلاقية. ومأساة غزة اليوم تُحرج العالم، ليس فقط من زاوية الخسائر الإنسانية، بل لأنها تضع الضمير الدولي تحت الاختبار: هل ما زالت هناك قيمة تُحترم خارج حسابات المصالح؟
وإذا كان النبي ﷺ قد أسّس دولته في محيط معادٍ، وواجه قوى أكبر، وسلك في ذلك طريقًا أخلاقيًّا واضح المعالم، فإن ذلك يُعيد التذكير بأن الحق حين يُصاغ بلغة القيم، يُرعب خصومه أكثر من لغة السلاح.
ربما لم تُسقط أي حرب في العصر الحديث أوراق التوت عن السياسة الدولية كما فعلت حرب غزة. لقد كشفت هذه الحرب زيف الحديث عن القانون الدولي، وهشاشة المؤسسات الحقوقية، وانتقائية الإعلام العالمي، وأزمة النفاق في خطاب “حقوق الإنسان”.
وتمامًا كما فعل النبي ﷺ حين عرّى ادعاءات قريش بالسيادة الأخلاقية، فإن غزة اليوم أجبرت العالم على أن يرى صورته في مرآة من دم وركام وجوع.
أخلاق المقاومة.. حين يُصبح البقاء شهادة
المقاومة في غزة ليست مجرد رد على عدوان، بل هي تمسك بحق لا يزال بعضهم يراه قابلًا للتفاوض. وهي تذكير للعالم بأن القوة الأخلاقية هي ما يمنح الحق استمراريته، لا حجم الصواريخ ولا عدد التحالفات.
وحين نستدعي السيرة النبوية في هذا السياق، فما ذلك إلا لنؤكد أن القيم التي خاض بها النبي ﷺ معاركه، هي ذاتها التي تعاني من الغياب الفجّ اليوم في تعاطي العالم مع غزة.
فإذا كان التاريخ قد أنصف الحق في نهاية المطاف، فإن المستقبل -وإن تأخر- لن يكون استثناءً.